في الـ2 من أكتوبر 2022، وأثناء قيام النرويجي «إيرلينغ هالاند»، لاعب مانشستر سيتي الإنجليزي، بافتراس خصمه مانشستر يونايتد الإنجليزي، مسجلًا ثلاثية هي الثالثة له في الدوري الإنجليزي الممتاز «بريمييرليج» بعد 8 مباريات فقط، كان فلورنتينو بيريز يصرّح أمام الجمعية العمومية لنادي ريال مدريد الإسباني، أنّ السبيل الوحيد لإنقاذ كرة القدم، التي أصبحت تتسم بالملل، هو إقامة دوري السوبر الأوروبي «سوبرليج».
هل للحدثان علاقة ببعضهما البعض؟ لنرَ.
مرحلة الشك

طبقا لفلورنتينو بيريز، لم يكن الغرض من إقامة السوبرليج حصر المنافسة والأموال بين مجموعة محدودة من الأندية «الكبيرة» في المُطلق، لكنّه حسب وجهة نظره، يعتقد أن كرة القدم الحالية لم تعُد تجذب الجماهير، ما يُهدد اعتلائها لعرش الرياضات حول العالم.
حتى يبسّط وجهة نظره، استعان بيريز بحقيقتين؛ الأولى هي أن الإحصائيات أثبتت أن مشاهدات كرة القدم تراجعت بشدة خلال السنوات الأخيرة، حيث تقلصّت نسبة الاشتراكات المدفوعة لمشاهدة كرة القدم بنحو 42%، أما الحقيقة الثانية هي أن بعض التحليلات الإحصائية تشير إلى تراجع شعبية كرة القدم حول العالم لتصبح في المركز الـ12 لصالح رياضات أكثر حداثة، بعد عقود عاشت خلالها كرة القدم على رأس هرم الرياضات كافة.
يزعُم بيريز ومؤيدوه أن مرحلة الشك التي تعيشها كرة القدم حاليًا ما هي إلا نتاج لافتقاد اللعبة لعنصُر الترفيه، الذي لطالما حاولت اللعبة تقديمه بشكلٍ أو آخر، دون أن تتنازل عن كونها لعبة احترافية، تتحكّم في مصائر الملايين. لكن كل المحاولات التي نجحت سابقًا بتعديل قوانين وشكل مسابقات كرة القدم لم تعد كافية الآن لإقناع الشريحة الأهم والأكبر من مواطني العالم الحالي؛ وهو مواطنو «الجيل زد».
أصبح الشباب منفصلين كليًا عن الرياضة، مقارنة بأولئك الأكبر سنًا. هناك مجموعة ديموغرافية شابة تقول إنها غير مهتمة بالرياضة على الإطلاق.
أندريا جروجريو، رئيس قسم الرياضة بموقع «يورو سبورت»، مؤتمر قمة أعمال كرة القدم، أبريل 2021.
طبقا لبيانات تم تحديثها عام 2021، نحو 42% من الشباب بين أعمار 13 و23 عاما، لا يبدون أي اهتماما بالرياضة، بما فيها كرة القدم. وفي استطلاع رأي موسع شمل 8 أسواق جماهيرية، يعود لعام 2019 أجراه موقع «Fans Insight»، المهتم ببيانات شعبية الرياضات المختلفة، اتضّح أن الشباب بين أعمار 16 و24 عامًا يفضلون مشاهدة محتوىً مسلٍ، بدلًا من مشاهدة الرياضات المتعارف عليها.
تبدو الأرقام منطقية بالفعل، لسبب بسيط، وهو أن هذا الجيل وجد نفسه يعيش داخل عالم متسارع، بالتالي اكتسب سمة «قلة الصبر»، والتي لا تجعل افراده ذوي قدرة على مشاهدة محتوىً طويل المدة، إضافة إلى كونه مرتبط بمواعيد ثابتة، والأهَم أنّ هذا المحتوى لا يمكِن أن يضمن تفاعلًا حقيقيًا من المشاهدين مع مجريات اللعب، على عكس رياضات تم استحداثها مؤخرًا، جعلت المشاهد أقرب لنجمه المفضّل.
ال والتسلية
في الواقع، أدرك المسؤولون عن رياضات أخرى، خاصة الألعاب الأمريكية مثل: الهوكي الجليدي «NFL» وكرة السلة الأمريكية «NBA»، أن استقطاب الجيل زد لا يعد رفاهية، بل ضرورة لاستمرار هذه الرياضات على قيد الحياة.
الأطفال في سن الـ10 وما دونها حاليًا يمرّون بأغرب طفولة على الإطلاق، حيث الإنترنت، بالتالي لن يتمكّن الآباء والمدرسين وغيرهم من البالغين من التواصل معهم إذا لم يمتلكوا ولوجًا دائمًا لمنصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
-ريتش لوكر، اختصاصي علم النفس الاجتماعي، المهتم بدراسة توجهات وسلوكيات الجماهير.
في العصر الحالي، لم يعُد التعلُّق بالرياضة متوارثًا عبر الآباء كما في السابق، بالتالي أضحت دوريات الرياضات الأمريكية كافة في حاجة إلى استقطاب هذا الجيل. وكانت الخطة في منتهى البساطة، عبر توقيع عقود شراكة مع أبطال هذا الجيل مثل: أصحاب محتويات الألعاب على يوتيوب أو تويتش، بل واستخدام المنصات مثل: تيك توك وسناب شات، لجذب انتباه هؤلاء الشباب، حتى لو كان التوجّه نفسه لا يُعبّر عن جوهر الرياضة.
في سبتمبر 2022، وفي حدثٍ يبدو في ظاهره تافه، استضاف ملعب «تشارلتون أتلتيك» الإنجليزي مباراة خيرية أقامها مجموعة من صُنّاع المحتوى الساخر على يوتيوب. الأكثر أهمية كان حضور نحو 27 ألف متفرج لمشاهدة هذه المباراة، في حين لم يتخط أقصى حضور جماهيري على نفس الملعب في هذا الموسم حاجز الـ17 ألف متفرّج.
الأكثر غرابة كان تلقي موقع حجز تذاكر حضور هذه المباراة لطلبات تفوق سعة ملعب «ويمبلي» التاريخي 3 مرّات، نفس الملعب الذي لم يمتلئ على آخره لمشاهدة نجوم منتخب إنجلترا الأول خلال آخر مباراة تحضيرية له داخل البلاد أمام ألمانيا قبل الذهاب لكأس العالم 2022 في قطر.
كيف ينقذ إيرلينغ هالاند كرة القدم؟

بالعودة للمحتوى المُسلّي، ورغبة جماهير الجيل زد في الترفيه، وطمع الشباب صغير السن في تحديثات مستمرة، يبدو أن إيرلينغ هالاند قد يكون الرجل المناسب لقيادة حملة إنقاذ كرة القدم من عزوف الجماهير عنها.
طبقا لسيمون ترينور، محرر موقع «When Saturday Comes»، تحولت كرة القدم بشكل عام لصراع ممتد على مدار الساعة، حيث لا تتكتفي الجماهير بمشاهدة المباريات، بل أن بعضها ‑الذي لا يشاهد المباريات من الأساس- قد لا يتوقَّف عن التغريد حول المباريات التي لم يشاهدها. والحقيقة هي أنّ مثل تلك السلوكيات التي فصلت اللعبة عن جوهرها المتعلق بالدراما، التاريخ وحب اللعبة، هي نتيجة منطقية لجماهير سريعة الملل، أكثر رغبة في إصدار الأحكام حتى ولو كانت ساذجة، لأن هذا يضمن مشاركة في جولات «المزاح» التي أصبحت وفقا لوجهة نظر ترينور، جوهر كرة القدم في 2022.
بالعودة لإيرلينغ هالاند، في مطلع موسم 2022/2023، وتحديدًا بمباراة الدرع الخيرية ضد ليفربول، لم يسلَم النرويجي من تصيُّد الجماهير، التي استسهلت إطلاق أحكام بعدم قدرته على التأقلم مع أجواء الدوري الإنجليزي وغيرها من الأحكام المعلبة، خاصةً بعدما فشل في تسديد إحدى الكرات الطائرة بطريقة أكروباتية، جعلت هدفًا سهلًا للانتقادات.
في الحقيقة، تعيدنا هذه القصة إلى سمات الجيل زد، التي ربما تحولت لتيار عام يشكل قطاع عريض من الجماهير، التي وبسبب الولوج السريع للإنترنت، عزفت عن مشاهدة المباريات كاملةً، لتكتفي بالمقاطع القصيرة التي تُبرز اللقطات الجيدة أو السيئة للاعب ما، بل أحيانًا قد تتجاهل نفس الجماهير كل ذلك، لتلجأ إلى التطبيقات المختلفة مكونةً وجهات نظرها عن طريق بعض الأرقام دون أي سياق.
في ظل هذا التشتت، تألق إيرلينغ هالاند سريعًا؛ كلاعب ينتمي بالأساس للجيل زد، قادر على التسجيل بغزارة، يتردد اسمه على مدار الساعة، يتصدّر محركات البحث، مشبعًا رغبة أبناء جيله في تحديثات مستمرة حول إذا ما كان بشريًا أم إنسان آلي؟ أو عما إذا كان قادرًا على كسر أرقام ليونيل ومطاردة جماهير الجيل زد ميسي وكريستيانو رونالدو التي ظلّت صامدة لعقد من الزمان؟
كل ذلك، دون أن نلجأ لإقامة السوبرليج، ودون أن تتحول كرة القدم لجولات من المزاح ثقيل الظل، وبشكل يرضي كل الأجيال.
المصادر:
1- تصريحات فلورنتينو بيريز أمام الجمعية العمومية لريال مدريد.
2- تقرير: جماهير الجيل زد والعزوف عن كرة القدم.
3- الدوريات الأمريكية ومطاردة جماهير الجيل زد.
4- نهاية عالم كرة القدم على يد مجموعة من صناع المحتوى؟
5- داخل عالم كرة القدم المحير على تويتر
6- إيرلينغ هالاند الذي أذهلنا جميعا