مطلع فبراير 2022، بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، بأمر مباشر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أعلن اجتياح القوات الروسية الحدود الأوكرانية جوًا وبحرًا وأرضًا.
حتى نتفهّم حقيقة الصراع الروسي الأوكراني بشكل مفصّل، لا بُد لنا وأن نتطرق لحقيقة العلاقة التاريخية الوثيقة ما بين البلدين، والتي تعود ‑على أقل تقدير- للقرن الـ9 الميلادي.
الـ«كييڤان روس»
بأواخر القرن الـ9 الميلادي، قامت مجموعة من النورسمان، يطلقون على أنفسهم «روس» بفرض سيطرتهم على المجتمعات السلافية الشرقية المعروفة حديثًا بشمال غرب روسيا، ثم انتقلوا إلى أسفل نهر دنيبر صوب مدينة كييڤ، لتكون عاصمة دولتهم المؤسسة حديثًا، لهذا، يطلق المؤرخون لقب «كييڤان روس» على هذه الدولة الكبيرة التي أقامتها هذه المجموعة من البشر في القرون الوسطى.
سرعان ما اندمجت نخبة الشعوب الإسكندنافية مع السكان السلافيين المحليين، الذين بدؤوا في الإشارة إلى أنفسهم على أنهم شعب روس، وكان قلب دولة روس هو وسط أوكرانيا الحالية.
تأسست موسكو في القرن الـ12، لكن قبل ذلك، وفي عام 988، قبل الأمير الكبير فولوديمير، المسيحية كديانة جديدة للمنطقة، فيما كان قلة من الروسيين وقتئذٍ يتحدثون اللغة الأدبية للكنيسة السلافية القديمة، بينما تحدّث العامة بمجموعة من اللهجات السلافية الشرقية التي تطورت منها اللغات الأوكرانية والبيلاروسية والروسية الحالية.
في منتصف القرن الـ13، تم غزو إمارات روس بسهولة من قبل الإمبراطورية المغولية، لكن روسيا وأوكرانيا، متمثلتين في كييڤ وموسكو، استمرا في تنافس، يمكن اعتباره شكلا مبسطا لـ«الحرب الروسية الأوكرانية»، من أجل حمل الإرث الخاص بدولة روس في العصور الوسطى.
اقرأ أيضًا: زيلينسكي.. وكيف تحول «خادم الشعب» من الخيال إلى الواقع؟
«معاهدة بيرياسلاف»

مع تراجع القوة المغولية في منتصف القرن الـ14 الميلادي، استغلت إمارة موسكو ودوقية ليتوانيا الكبرى أراضي دولة روس السابقة، في حين تطورت جماعات مختلطة من القوزاق الأوكرانيين على حدود بولندا الجنوبية، لحمايتها من التتار الذي يسكنون منطقة القرم.
في ذلك الوقت، كان مفهوم «أوكرانيا» موجودًا بالفعل، لكن السكان المحليين استمروا في تسمية أنفسهم «روس»، بينما كانوا يشيرون إلى الروس المستقبليين باسم «سكان موسكو».
بحلول القرن الـ17 ميلاديًا، سئم السكان الأرثوذوكس للأراضي الأوكرانية، من السياسات الدينية الكاثوليكية لبولندا، والتي كانت العبودية أحد مفاهيمها المنتشرة، حيث يرتبط الفلاحون بالأراضي، ويتم بيعهم وشرائهم معها.
أدى تمرد القوزاق عام 1648 إلى حرب اجتماعية ودينية جماعية ضد الحكم البولندي، مما أدى إلى إنشاء «الهتمانات»؛ وهو نظام حكم قوزاق مستقل عن حكم الملك البولندي.
وبحثًا عن إيجاد حلفاء ضد بولندا، وافق أحد قادة الهتمانات على حماية القيصر الروسي الأرثوذكسي في معاهدة بيرياسلاف عام 1654.
اقرأ أيضًا: أرشافين.. والحقيقة وراء «جاسوس روسيا في ملاعب الإنجليز»
قانون «إيمس»
ظهرت أولى ملامح ما يعرف حاليًا بالحرب الروسية الأوكرانية بشكل واضح بمنتصف القرن الـ18. تحديدًا عام 1764، ألغت كاترين الثانية، ملكة روسيا، نظام الهتمانات، لمحو آخر بقايا الحكم الذاتي الأوكراني، ودمر الجيش الروسي معقل القوزاق على نهر دنيبر.
خلال تقسيم بولندا في أواخر القرن الـ18، استحوذت كاثرين الثانية على مساحة كبيرة من الأراضي الأوكرانية التي احتفظت بها بولندا بعد عام 1654. ومع ذلك، كان الإحياء الوطني الأوكراني جاريًا أقصى غرب أراضي روسيا، والتي امتدت من بولندا إلى الإمبراطورية النمساوية، وهو ما أثار قلق السلطات الروسية في عام 1863، والتي أمرت بحظر نشر المؤلفات التعليمية المكتوبة باللغة الأوكرانية تمامًا.
في عام 1876، وقع القيصر ألكسندر الثاني، قيصر روسيا، قانون «إيمس» ‑نسبة لمدينة ألمانية بنفس الاسم- بشكلٍ رسمي، والذي يُحظر وفقًا له عمليات النشر باللغة الأوكرانية.
بشكلٍ متصل، استمرت الإمبراطورية في تعزيز استيعاب الثقافة الروسية من خلال مكافأة هؤلاء الأوكرانيين «المخلصين» الذين اعتبرتهم يشكلون «القبيلة الروسية الصغيرة» للشعب الروسي الأكبر، مع التمييز في الوقت نفسه ضد الأوكرانيين المسيسين في شكل فقدان الوظائف والاعتقال والنفي.
في حين بدأ الوطنيون الأوكرانيون في استخدام «الأوكرانيين» كتسمية عرقية للدلالة على تميزهم عن الروس.
سحق الأمة الأوكرانية

يعد استقلال أوكرانيا عام 1918 إحدى أهم محطات تاريخ الحرب الروسية الأوكرانية، الحدث الذي لم يكن ليتم سوى بانهيار الملكية الروسية عام 1917، تحت وطأة الحرب العالمية الأولى، وهو ما استغله الأوكران أفضل استغلال بإعلان أوكرانيا استقلالها التام عام 1918، معلنة اتحادها مع الأراضي الأوكرانية التابعة للمملكة النمساوية المجرية سابقًا.
لم تتمكن أوكرانيا من النجاة من الصدام العملاق بين الروس الحمر والبيض خلال الحرب الأهلية الروسية، خلال الفترة ما بين 1917 و1922، حيث لم تعترف أي من القوتين بالسيادة الأوكرانية، لكن سابقة الاستقلال الأوكراني أجبرت البلاشفة على إنشاء جمهورية أوكرانية سوفيتية في عام 1922، والتي أصبحت بعد ذلك أحد أعضاء الاتحاد السوفييتي المؤسسين.
مع ذلك، استمر ستالين، الزعيم السوفييتي، في محاولة سحق الأمة الأوكرانية، سواءً سياسيًا أو اجتماعيًا، فطبقًا لبعض المؤرخين، لقي حوالي 4 ملايين فلاح أوكراني حتفهم في المجاعة التي دبرتها الدولة السوفييتية عام 1932، والتي تُعرف في أوكرانيا باسم «هولودومور» (القتل من خلال الجوع) واعتبرت إبادة جماعية، لكن روسيا ترفض هذا الزعم، على الرغم من قبوله عالميًا.
إضافة لذلك سعى ستالين للحد من انتشار النخبة الثقافية الأوكرانية، وبدأ في الترويج للفكرة القيصرية للأوكرانيين على أنهم الأخ الأصغر للروس.
شبه جزيرة القرم
نظرًا للأهمية الاستراتيجية لشبه جزيرة القرم، التابعة جغرافيًا لأوكرانيا، منحت روسيا حكمًا ذاتيًا لقاطني هذه المنطقة عام 1921، والمثير أيضًا أن أغلبية سكان شبه الجزيرة لم يكونوا من أصول روسية أو أوكرانية من الأساس كأغلبية، بل انحدر معظم السكان من أصول تعود لتتار القرم، لكن الروس أرادوا بهذه الفكرة، إثارة إعجاب المستعمرات الغربية والدول المستقلة حديثًا في آسيا بسياساتها التي تبدو خيرية.
عندما استعاد الجيش الأحمر شبه جزيرة القرم من ألمانيا النازية في عام 1944، أمر ستالين بالترحيل القسري للتتار، الأمر الذي يعتبره العديد من المؤرخين إبادة جماعية، ونتيجة لهذا الترحيل، أصبح الروس أغلبية عددية بين عشية وضحاها.
انهيار الاتحاد السوفييتي

أدى تخفيف الضوابط الأيديولوجية على يد ميخائيل جورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، إلى الرفض الجماعي للشيوعية السوفيتية، حيث عمل النشطاء الديمقراطيون الأوكرانيون والروس معًا للدخول في السياسات الجديدة؛ مثل حرية التعبير والانتخابات الحرة.
في ديسمبر 1991، أعلنت رسميًا نهاية الاتحاد السوفييتي، ليظل السؤال الذي لم توضّح له إجابة، ما مصير شبه جزيرة القرم؟ والتي يمكن بشكل ما اعتبارها مربط الفرس في تاريخ الحرب الروسية الأوكرانية بالقرن الـ21.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فطبقًا لمعاهدة شاملة بين روسيا وأوكرانيا تم توقيعها عام 1997، تعهدت روسيا والقوى الغربية بعدم المساس بحدود أوكرانيا الجغرافية، وهو ما نصت عليه معاهدة بودابست عام 1994 أيضًا، بعدما وافقت أوكرانيا على تسليم ترسانتها النووية سوفيتية الصنع.
اقرأ أيضًا: الحرب العالمية الأولى.. صراع إمبراطوريات أشعله ابن الـ
الحرب الروسية الأوكرانية
أطاحت الثورة الشعبية الأوكرانية بالرئيس الأسبق فيكتور يانكوفيتش عام 2014، والذي عرف عنه موالاته لروسيا، وعبر انتخابات تمت بموافقة البرلمان، أجريت انتخابات الرئاسة التي جلبت بترو بورشنكو رئيسًا جديدًا للبلاد، والذي كان على عكس يانكوفيتش، مواليًا للقوى الغربية.
استغلت السلطات الروسية هذه الاضطرابات لفرض سيطرة عسكرية على شبه جزيرة القرم، ظنًا منها أن الأغلبية الروسية المحلية ستدعم اندماج شبه الجزيرة مع روسيا، التي تجتذبها الرواتب الأعلى وخيارات العمل الأفضل دون الحاجة إلى دراسة اللغة الأوكرانية.
ومع رفض المجتمع الدولي لعملية الضم تلك، وفي رد على العقوبات المفروضة على روسيا من جهة أخرى، بدأت السلطات الروسية في القرم بقمع النشطاء الأوكرانيين المحليين وتتار القرم.
بعد ضمان سيطرتها على شبه جزيرة القرم، وطبقًا لمعظم التقارير، أثارت روسيا أيضًا حركات تمرد في مقاطعات أخرى في جنوب شرق أوكرانيا، حيث لطالما عملت الأحزاب الإقليمية المهيمنة على ترسيخ المواقف المؤيدة لروسيا فقط.
نهايةً، كانت تلك أبرز محطات ما يعرف حاليًا بالحرب الروسية الأوكرانية، التي امتدت لعشرات السنوات، ما بين محاولات فرض كل طرف سيطرته على هذه البقعة من الأرض، سواءً باتباع أساليب سياسية، اجتماعية وأحيانًا عسكرية.