في عصر ما قبل كرة القدم، احتكرت سباقات المشي بالقرن الـ19 الزخم بأسره، حيث حضور جاهيري غفير، عقود رعاية ضخمة، ورياضيين يتمتعوا بعقود مجزية.
في الواقع، تبدو القصة طريفة، خاصةً عندما نخبرك أن المنافسات عادة ما كانت تستمر لأيام، فكيف بدأت هذه الفكرة؟ ولماذا توقفت؟
بطاقة تعريفية
بأواخر القرن الـ19، وتحديدًا في الـ21 من سبتمبر 1879، وتجمع نحو 13 رياضيًا، يرتدون ملابس ضيقة وسراويل قصيرة في حديقة ماديسون سكوير في نيويورك، تحت أنظار ما يدنو من 10 آلاف متفرج.
في ذلك الوقت، كان المتسابقون من المشاهير العالميين، الذين وصلوا إلى مقر الحدث مع حاشية من أخصائيي التغذية والأطباء والطهاة والمدلكين الرياضيين.
كانت سباقات المشي، خاصة هذا الحدث، احترافية بشكل كبير، تماما مثل كرة القدم في العصر الحالي، حيث شهد مضمار السباق تواجد مختلف الرعاة، إضافةً لفرقة عسكرية تضفي بعدًا قوميًا للحدث.
وبما أنّه حدث كبير، كانت جائزة حصد لقب «بطل العالم» كبيرة أيضًا، طبقا لبعض المصادر، وصلت قيمة جائزة المركز الأول نحو 25 ألف دولار أمريكي، وهو ما يوازي نحو 650 ألف دولار في وقتنا الحالي.
كيف بدأت سباقات المشي؟
طبقا لتقرير هيئة الإذاعة البريطانية، بدأت رياضة المشي كلعبة احترافية بسبب حادثتين، لا علاقة لهما بالرياضة من الأساس.
في عام 1859، كان من المفترض أن يجمع إدوارد بايسون ويستون (19عاما)، الذي يعمل في صحيفة نيويورك هيرالد، صندوقًا من الزهور الفاخرة من عربة توصيل ويرسلها كهدية نيابة عن رئيسه، لكنه نسي أن العربة وصلت، ثم غادرت مرة أخرى. ولتصحيح خطئه، تتبع مسار العربة في جميع أنحاء المدينة، وفي النهاية اللحاق بالركب.
تابع زملاء ويستون مغامرته بأكملها، وفي اليوم التالي حصل على أجر مضاعف لجهوده البطولية.
بعد عام، دخل ويستون في رهان مع صديق له، حول نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1860، حيث اتفقا على أن يسير الخاسر إلى واشنطن لحضور حفل التنصيب. راهن ويستون على منافس أبراهام لنكولن، الديمقراطي الغامض جون بريكنريدج، لذا سرعان ما وجد نفسه في رحلة مدتها 10 أيام دفعته إلى الشهرة بين عشية وضحاها.
وبعد انتشار هذه القصص، بدأت سباقات المشي من العدم، لتصبح لعبة تنافسية؛ تنص قوعدها البسيطة على أن يسير المتسابقون في دوائر لمدة ستة أيام متتالية، حتى يكملوا دورات تعادل ما لا يقل عن 450 ميلاً (724 كم).
ويمكنهم الجري أو المشي أو الترنح أو الزحف، لكن دون أن يتركوا مسار نشارة الخشب البيضاوي الشكل حتى ينتهي السباق. وبدلاً من ذلك، كانوا يأكلون ويشربون وينامون (ويفترض أنهم يؤدون وظائف جسدية أخرى) في خيام صغيرة على جانب المضمار.
إبهار
حسب ماثيو ألجيو، مؤلف كتاب Pedestrianism: When Watching People Walk was America’s Secret Spectator Sport، على الرغم من أن مشاهدة الناس يسيرون في دوائر قد تبدو مملة وفقًا للمعايير الرياضية الحديثة، إلا أن المباريات داخل الحلبة كانت أشبه بعرض لطيف. فمثلا؛ كان ويستون يعزف على الشياع (آلة موسيقية) أثناء سيره.
ومن نفس المنطلق، كان لكل المتسابقين «تكنيك» خاص، يجذب انتباه المشاهدين له، خاصة الأطفال، الذين وجدوا في قوة تحمل المشاة مصدر إلهام لهم.
وكأي رياضة، احتدمت حدة التنافس، ولجأ البعض لتناول المنشطات، مثل إدوارد ويستون، الذي تم الكشف في 1876 عن تناوله لـ«أوراق الكوكا»، وهو منشط يعود تاريخه لحضارة الإنكا، حيث استخدمه السكان المحليون لتقليل أعراض الإجهاد والتعب.
لكن يعتقد أن السبب الرئيسي في تعلق الجماهير بهذه الرياضة ‑حديثة العهد- هو حقيقة أن العالم كان يسير بشكل سريع نحو التصنيع، ما يعني انشغال أغلب العمال بالدوام داخل المصانع. لذا وفرت هذه المسابقات، التي عادة ما كانت تستمر لأيام متتالية الفرصة للعمال أن يشاهدوا مبارياتها في أوقات فراغهم، على عكس المسابقات الأخرى المرتبطة بمواعيد ثابتة.
خارق للطبيعة؟
في الواقع كان أحد أسباب انتشار رياضة المشي، هو اعتقاد الجمهور العادي أن هؤلاء الرياضيين خارقون للطبيعة؛ حيث يمكنهم الاستمرار في المنافسة لأيام متتالية، وصلت أحيانا لـ52 يوما، فكيف يتمكّن هؤلاء من تحمُّل هذا الجهد البدني والذهني الشاق؟
من الناحية البيولوجية، يبدو ذلك ممكنا، لأن التاريخ التطوري للبشر يخبرنا أن أجدادنا لطالما استخدموا قدرة التحمل البشرية أثناء مطاردة الفرائس في البرية. بل أن بعض القبائل لا زالت تستخدم نفس الأسلوب حتى يومنا الحالي.
لشرح مدى قدرة تحمل البشر للجهد، حلل مجموعة من الباحثين نتائج سباقات (البشر ضد الخيول) التي كانت منتشرة في القرن الماضي، واتضح أن البشر كانوا أكثر تأقلما مع الركض في الأجواء الحارة، على عكس الخيول، التي لطالما كانت تفقد حدة سرعتها مع تغيُّر الطقس.
لذا يعتقد العلماء أن الإنسان نجح بشكل ما في تطوير مهارة قوة التحمُّل، عبر تاريخ طويل من التأقلم مع الظروف التي تتطلب فترات منتظمة من المجهود المستمر.
أين اختفت سباقات المشي؟
بحلول مارس 1881، كانت رياضة المشي تعيش أيامها الأخيرة، حيث بدا أن الجمهور فقد اهتمامه بمنافسات المشي، وتراجعت نسب الحضور الجماهيري بشكل قياسي، طبقا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
من جهة، يعتقد أن أحد أسباب تلاشي الاهتمام باللعبة كان اعتزال نجومها المشاهير عن خوض المنافسات، لكن من جهة أخرى، يعتقد المؤرخون أن الوعي الجمعي بدأ في رفض الفكرة برمتها، التي حوّلت البشر لمجرد وحوش في سيرك لإمتاع وتسلية الجمهور.
في الحقيقة، وبغض النظر عن فكرة البراعة الرياضية، كان لرياضة المشي جانبا مظلما، حيث كانت حياة رياضييها عبارة عن أيام متتالية من الجهد وقلة النوم وتناول الشمبانيا من أجل تسكين الألم.
شبّه ديريك مارتن، طالب الدكتوراه الذي درس تاريخ رياضة المشي في جامعة مانشستر متروبوليتان، هذه المنافسات بمسابقات الرقص التي اجتاحت أمريكا خلال فترة الكساد الكبير، والتي كانت تعطي رصيدا لمن يستطيع الرقص لفترة أطول دون أن ينهار من التعب.
حسب بعض المؤرخين، انتهت منافسات سباقات المشي تماما مع ظهور الدراجات الهوائية، حيث وجد المتابعون فيها حيوية أكبر، إحساس مشابه بالقدرة على التحمُّل، وجرعة مناسبة من مشاهدة إنسان يدفع نفسه لحدود قوته القصوى.
باختصار، كانت سباقات المشي، كغيرها من الرياضات عبر تاريخ البشرية، حالة من حالات هوس الإنسان بقدراته، ولم تكن هذه المنافسات سوى محاولة من بعض البشر لإثبات هذه القوة.