كنا نعلم أن العالم لن يكون نفسه بعد هذه اللحظة. ضحك عدد قليل من الناس، بكى عدد قليل من الناس. لكن معظم الناس كانوا صامتين. وقتئذٍ، تذكرت سطرًا من الكتاب المقدس الهندوسي.. “الآن أصبحت الموت، مدمر العوالم”. أفترض أننا جميعا فكرنا في ذلك، بطريقة أو بأخرى.
روبرت أوبنهايمر.
اللحظة التي يتحدّث عنها أوبنهايمر هي اللحظة التي أدرك عندها الأثر التدميري الحقيقي القنبلة الذرية التي ساهم بشكل مباشر في صناعتها. لهذا انطوت عباراته الأولى عقب نجاح مشروع “مانهاتن” على الكثير من الندم، الخوف من المُستقبل، أو الشك في مدى أخلاقية أهم إنجازاته.
روبرت أوبنهايمر، أو “أبو القنبلة الذرية”، كان المسؤول عن أضخم مشاريع الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية/العلمية، أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت تمامًا بعدما تسبب إلقاء أمريكا قنبلتي “الولد الصغير” و”الرجل السمين” على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين.
ولضخامة هذا الحدث، لا يزال أوبنهايمر اسما متداولا حتى اللحظة، لأنه الرجل الذي يُنسب له الفضل أولا في تغيير خريطة العالم السياسية، ويتهم ثانيا بتسببه في اختراع يعتقد أنّه لا محالة سيكون الحلقة الأولى التي تقودنا في النهاية لفناء البشرية.
من هو روبرت أوبنهايمر؟ هذا السؤال البسيط قد يقودنا نهايةً لتفكيك أحد أكثر قصص التاريخ تعقيدًا.
ضحية؟
الطفل الذي ولد لعائلة ألمانية يهودية مهاجرة مطلع القرن الـ20 كان مُختلفا عن أقرانه، ليس لأنّه نابغةً، بارع في الكيمياء والشعر واللغات قبل أن يصل لسن المراهقة، لكن لأنّ زملائه وجدوه مختلفا بالفعل عنهم؛ صبي نحيف، ذو شعر كثيف، يتصرّف بطريقة غريبة، بل حتى يسير ويجلس بطريقة مختلفة عن الجميع.
وعلى الرغم من اعتناء أسرته المستقرة ماديًا به، اعتاد أوبنهايمر الدخول في نوبات اكتئاب في طفولته، جعلته أكثر رغبةً في الانعزال عن العالم لأيام، في حين وجد زملاؤه في سماته الشخصية تلك سببا كافيا للسخرية منه.
المثير أن أوبنهايمر لم يشتكِ قط من تعامل الآخرين له، والذي وُصف أحيانًا بالمهين، لكنّه كان يرى في ذلك سبيلًا لتعلُّم الحياة بحق. في كتاب: بروميثيوس الأمريكي: انتصار وتراجيديا روبرت أوبنهايمر، يصف “كاي بيرد” و”مارتن شيروين” هذه الفترة من حياة عالم الفيزياء بأنّها المرحلة التي دفع بها ثمن المعرفة الضخمة التي يمتلكها مقارنة بعمره، لكن بشكل مؤلم.
من يُدمّر العالم؟
كما كان مُقدرًا لنابغة مثله، درس روبرت أوبنهايمر الكيمياء في جامعة هارفارد، ثم الفيزياء في جامعة كامبريدج البريطانية، قبل أن ينتقل لألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية في جامعة “جوتنغن” بدعوة من العالم ماكس بورن. ومن عام 1927، السنة اللي حصل فيها على الدكتوراه، أمضى “أوبي” 13 عامًا في التنقل بين الجامعات الأوروبية والأمريكية لإجراء أبحاث في العديد من المجالات العلمية مثل: الفيزياء النووية والفلكية.
في عام 1939، بدأت ألمانيا برنامجها السري، المسمى “Uranverein”، أو “نادي اليورانيوم”، بعد أشهر من اكتشاف العالمين الألمانيين “أوتو هان” و”وفرتز ستراسمان” للانشطار النووي.
كانت ألمانيا في ذلك الوقت أكثر تقدمًا في مجال الفيزياء، لذلك تحركت الولايات المُتحدة من منطلق الخوف وأطلقت مشروع “مانهاتن” عام 1942، بتمويل وصل لـ2 مليار دولار، فقط لمحاولة استباق تحركات الألمان العلمية، والتي قد تقود “هتلر” في النهاية لامتلاك سلاح نووي.
جمعت الولايات المتحدة الأمريكية ألمع العقول بأوروبا في كل المجالات، وتم تكليفهم بصناعة قنبلة لم يُرَ لها مثيل، فيما تم اختيار أوبنهايمر على رأس هؤلاء العلماء، على الرغم من عدم امتلاكه الخبرة الإدارية الكافية لإدارة مثل هذا المشروع السري.
على الرغم من ذلك، اختار “ليزلي جروفز”، مدير مشروع مانهاتن، توظيف أوبنهايمر لقيادة فرق البحث العلمي ومختبرات المشروع؛ لأنه حسب تقديره، كان عبقريًا، والأهم كانت قدرته على الوصول لصيغ يمكنه من خلالها تبسيط الأمور العلمية لغير المتخصصين، وهو ما كان ضروريًا لإنجاز مهمة كتلك.
بعد 3 سنوات من بدء المشروع، كان أوبنهايمر وفريقه على استعداد لاختبار قنبلتهم الذرية. تم إجراء اختبار “الثالوث” في 16 يوليو 1945 في ألاموغوردو، بنيو مكسيكو حيث شاهد أوبنهايمر أول انفجار نووي في العالم.
المفارقة كانت أنّ ألمانيا كانت قد انسحبت بالفعل من الحرب العالمية الثانية قبل هذا التاريخ، والأدهى كان ما اكتُشف لاحقًا وهو أنّ ألمانيا النازية بقيادة هتلر لم تكن تولي اهتمامًا حقيقيًا لتطوير قنبلة نووية. هنا تحديدًا يبدأ صراع روبرت أوبنهايمر الأخلاقي.
مذنب إلى الأبد
بعد أشهر من الاختبار بنيو ميكسيكو، حدد القادة العسكريون لمشروع مانهاتن هيروشيما اليابانية كهدف مثالي للقنبلة الذرية، نظرا لحجمها وحقيقة أنه لم يكن هناك أسرى حرب أمريكيون معروفون في المنطقة، حيث اعتبر العرض القوي للتكنولوجيا التي تم تطويرها في نيو مكسيكو ضروريا لإرغام اليابانيين على الاستسلام. بعد ذلك بأيام، أسقطت قنبلة أخرى على ناجازاكي، لتستسلم اليابان وتنتهي الحرب تمامًا، وتستعيد الولايات المتحدة كبريائها الذي فقدته في “بيرل هاربور”.
في اجتماع مع الرئيس هاري ترومان، أعرب أوبنهايمر عن انزعاجه من استخدام القنبلة الذرية الثانية، الأمر الذي لم يكن ضروريًا بأي شكل في مسار الحرب. ما جعله يشعر وكأن يداه ملتخطان بالدماء.
في واقع الأمر، على الرغم من أن مشروع مانهاتن لم يكن سوى مشروع علمي بالنسبة لأوبنهايمر، لكنّه مع ذلك يظل متورطًا في إنهاء حياة آلاف الأبرياء، حتى وإن لم يكن يمتلك قرارًا باستخدام هذا السلاح من الأساس.
تتضح بسهولة نتيجة الصراع الأخلاقي داخل روبرت أوبنهايمر فيما تبقى من حياته، حيث رفَض تطوير القنبلة الهيدروجينية في السنوات اللاحقة للحرب، وكافح ضد استخدام الطاقة الذرية لأغراض عسكرية.
ربما كانت لحظة إسقاط القنبلة الذرية هي لحظة النجاح الأهم في حياة أوبنهايمر؛ اللحظة التي تحمَّل لأجلها تنمُّر أصدقائه وهو مراهق، ثم راكم العلوم مراكمةً طمعًا في اعتراف ضمني من العالم بتفرّده، لينتهي به المطاف مذموما. ربما لأن الطريق للجحيم دائما ما يكون مفروشا بالورود.
المصادر:
1- https://www.history.co.uk/articles/robert-oppenheimer-father-of-the-atomic-bomb
2- https://www.history.co.uk/articles/oppenheimer-and-the-manhattan-project
4- https://www.privatdozent.co/p/the-eccentric-and-ingenious-father-4ea
5- https://ahf.nuclearmuseum.org/ahf/history/german-atomic-bomb-project/
6- https://www.radiotimes.com/movies/oppenheimer-leslie-groves-matt-damon/