في كرة القدم الحالية، أصبحت كل عمليات الانتقال مسموحةً، لا نقصد مدى قانونية الانتقال نفسه، بل تقبُّل الرأي العام له، لأن كرة القدم تحوّلت إلى صناعة ضخمة، يبحث الجميع من خلالها لخطف أكبر حصة من كعكة الأموال المتبعثرة يمينًا ويسارًا.
بالطبع يحمل مصطلح الانتماء إلى النادي أو الفريق وقعا رومانسيا على آذان المتابعين، يذكرهُم بأنه ما زالت هنالك مساحة لهؤلاء الأوفياء، الذين لم تنل منهم الرأسمالية، ومع إقرارنا جميعا بأنه لا يوجد من يمكننا وصفه بالمذنب في هذه القصة، سواءً كان لاعبا يسعى للملمة أكبر ثروة ممكنة بفترة احترافه كرة القدم، أو كان آخر آثر الارتضاء بما قُسم له من فتات مضاف إليه تعلّق الجماهير، يجب علينا أن نطرح سؤالا: لماذا تحوّل لاعبو كرة القدم إلى «مرتزقة» إن صح التعبير؟
الإجابة المنطقية هي أن السؤال نفسه قد تم طرحه بشكل خاطئ، فيجب أن يتم تعديله لكيف أصبحوا كذلك؟
لاعبون بؤساء
يخبرنا «جورج إيستهام»، نجم أرسنال بالستينيات، بأنه كان قد خاض صراعا شرسا ضد ناديه الأسبق نيوكاسل يونايتد بحلول العام 1959، لأنه أراد بذلك الوقت أن ينتقل إلى أرسنال، خاصةً وأن عقده كان على وشك أن ينتهي، طمعا في المزيد من الأموال. وقبل أن تتهم جورج بالجشع، عليك أن تُدرك بأن أقصى مرتب كان يتقاضاه أفضل لاعبي إنجلترا بهذه الفترة كان 20 جنيها إسترلينيا.
بمساعدة جمعية اللاعبين المحترفين، استطاع إيستهام البقاء على قيد الحياة، بعدما وصلت الأمور بينه وبين نيوكاسل إلى طريق مسدود، لأن قانون الانتقالات وقتها، كان يمنح النادي حق الاحتفاظ بلاعبه حتى وإن انتهى عقده. على كلٍ، في العام 1963، كان «جاستس ويلبرفورس»، حفيد «ويليام ويلبرفورس» الذي قاد حملة ضخمة لإنهاء تجارة العبيد في 1807، قد سمع عن قضية إيستهام، وأقر عندئذ، بأن احتفاظ نيوكاسل باللاعب غير قانوني. ما سمح للاعب في نهاية المطاف بالذهاب إلى أرسنال الإنجليزي ليلعب مع الفريق حوالي 200 مباراة سجل خلالها 41 هدفا.
حُكم المحكمة العُليا لصالح إيستهام كان فرديا، لم ينتج عنه أي قانون واضح ينُص على تعديل العلاقة ما بين النادي واللاعب، لذا ظل العمل قائمًا بنفس القانون إلى حدود العام 1995، حين حكمت محكمة العدل الأوروبية لصالح جيان مارك بوسمان بأحقيته في بالانتقال الحر من فريقه «رويال لييج» البلجيكي إلى أي ناد يريد.
عانى بوسمان ما عاناه إيستهام وأكثر، فقد انتهت مسيرته إكلينيكيا عام 1990 عندما أتم عامه الـ26، حين قرر اللجوء لمحكمة العدل الأوروبية برفقة محاميه الفرنسي لويس دوبوه، حتى يتسنى له الرحيل إلى نادي «دنكيرك» الفرنسي، خاصةً وأن اللاعب كان عقده منتهيا مع النادي البلجيكي، كما أن العرض المقدم للتجديد كان أقل بكثير من عقده المنتهي، أضف إلى ذلك كونه مواطنًا أوروبيا لديه كل الحق في التنقل بين دول أوروبا بمنتهى الحرية.
قانون بوسمان
«قانون بوسمان هو نظام يجيز انتقال اللاعبين المنتهية عقودهم بشكل حر ودون موافقة النادي وكذلك حرية انتقال اللاعب الأوروبي داخل نطاق دول الاتحاد الأوروبي واعتباره لاعباً محلياً».
صدر الحكم في 1995، أي حين أصبح بوسمان بعُمر الـ31، وخلال الفترة ما بين رفع الدعوى والحكم، كان اللاعب معلقا، لا يمكنه ممارسة كرة القدم، ما جعله يدخُل في حالة اكتئاب حادة، كما أدمن الكحول، إلا أن كُل ذلك لم يثنه عن محاولة تغيير الواقع الذي جعل من لاعبي كرة القدم سلعا مملوكة للأندية، وليسوا مجرد موظفين يتقاضون أجورًا مقابل عملهم.
في 1998 حصل بوسمان على حزمة تعويضات لما أصابه من ضرر بلغت قيمتها 312 ألف دولار أمريكي، وهو رقم بالطبع قليل جدًا مقارنةً بالتأثير الذي تركه على حياة لاعبي كرة القدم الحاليين، إلا أنه كرر في أكثر من مقابلة عدم ندمه على مسيرته، لكنه فقط كان ينتظر كلمات شُكر من أصحاب الملايين- نجوم الكرة- عرفانًا بما قدمه لهم.
ميزان القوى والانتماء
عند هذه اللحظة من تاريخ كرة القدم ‑إقرار قانون بوسمان- تحوّل ميزان القوى، ليصُب في صالح لاعب الكرة، بعدما كان مصدر قوة النادي بوقت سابق.
«لا يمكنني أن أطعم المجد لابني».
-مقولة منسوبة لباولو روسي أثناء مفاوضاته للتجديد مع يوڤنتوس الإيطالي.
حاليًا، لا تستطيع الأندية الصغيرة الحفاظ على لاعبيها كما في السابق، لأنه إذا ما انتهى عقد اللاعب، يمكنه الرحيل مجانًا، والاستمتاع بالمقابل لنفسه، بدلا من مشاركته بينه وبين النادي المالك لعقده.
هنا يمكننا أن نمسك بطرف الخيط، تخيل عدد اللاعبين الذين منعهم النظام من الانتقال لأندية أخرى، بالضبط، نجوم الثمانينيات والسبعينيات لم يختبروا التعرُّض لشهوة الأموال، لذا ظل معظمهم بناديه الأم، فأصبحوا أيقونات تتغنى بهم الجماهير، لكن الحقيقة، أنه حتى وإن لم يرغب أحدهم في تذوّق طعم الأموال، فبالتأكيد قد أرادوا بلحظة ما اختبار اللعب لأندية القمّة وحصد الألقاب.
طبقًا لبوسمان، لم يكن الهدف الحقيقي خلف ما فعل، أن تسيطر أندية القمة على كرة القدم بشرائها نجوم الفرق الصغيرة دفعة واحدة، ولا أن يستغل اللاعبون القانون ليجمعوا أطنانًا من الأموال، لكن هذا ما حدث، شئنا أم أبينا.
بالتالي، أصبح بديهيا أن ينتقل اللاعب من ناد إلى غريمه الأزلي غير مكترث بالجماهير التي لطالما هتفت باسمه، لأن انتماء الجمهور غير مشروط، لكن اللاعب يبحث بالطبع عن الأموال في المقام الأول، لأنه يستثمر موهبته خلال 15 عامًا في المتوسط، هي كامل مسيرته المهنية، التي يجب أن يخرج منها بأقصى استفادة ممكنة. بالتالي وجهته القادمة في الغالب يحددها المال، أما عن هؤلاء الأوفياء، فيظلون استثناءات لا يمكن القياس عليها، حتى يختبر وفاؤهم.