ثقافة ومعرفة

“التبادل الكولومبي”.. كيف جلب الخير للعالم والمرض أيضا؟

استخدم المؤرخ ألفريد كروسبي مصطلح “التبادل الكولومبي” لأول مرة في السبعينيات لوصف التبادل الهائل للأشخاص والحيوانات والنباتات والأمراض التي حدثت بين نصفي الكرة الأرضية الشرقي والغربي بعد وصول كولومبوس إلى الأمريكتين عام 1492 ميلاديًا.

ما هو التبادل الكولومبي؟

التبادل الكولومبي
خريطة التبادل الكولومبي

قبل أن نخبرك قصة التبادل الكولومبي يجب أولًا أن تعلم حقيقة وجود نظرية علمية قوية تقول إنه قبل 200 مليون سنة، عندما كانت الديناصورات لا تزال تجوب الأرض، كانت القارات السبع متحدة في شبه قارة واحدة ضخمة تعرف باسم “بانجيا”، ثم انفصلت ببطء واستقرت على الهيئة التي نعرفها اليوم، لكن في نفس الوقت تطورت كل قارة بشكل مستقل عن الآخرين على مدى آلاف السنين، بما في ذلك تطور أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والبكتيريا.

بحلول عام 1492، العام الذي وصل فيه كريستوفر كولومبوس إلى اليابسة لأول مرة على جزيرة في منطقة البحر الكاريبي، كانت الأمريكتان معزولتين تمامًا تقريبًا عن العالم القديم لحوالي 12000 عام مضت، منذ ذوبان الجليد البحري في محيط مضيق “بيرينغ”، الذي يعد الطريق البري بين آسيا والساحل الغربي لأمريكا الشمالية، ولكن مع وصول كولومبوس، ومن بعده موجات الاستكشاف والغزو والاستيطان الأوروبي، فإن عملية الانفصال العالمي أصبحت جزءًا من التاريخ.

الجانب المشرق للتبادل

التبادل الكولومبي
كريستوفر كولومبوس

في رحلة كولومبوس الثانية إلى منطقة البحر الكاريبي في عام 1493، أحضر بصحبته 17 سفينة وأكثر من 1000 رجل لاستكشاف المزيد وتوسيع مستوطنة سابقة في جزيرة هيسبانيولا (هايتي وجمهورية الدومينيكان حاليًا)، والأهم أن عنابر سفنهم كانت تحتوي على مئات الحيوانات الأليفة بما في ذلك الأغنام والأبقار والماعز والخيول والخنازير والتي لم يكن هنالك لها أي مثيل بالأمريكتين آنذاك.

على الرغم من أن الخيول كانت في الواقع قد ظهرت أولًا في الأمريكتين وانتشرت بعد ذلك في العالم القديم، لكنها اختفت من موطنها الأصلي في مرحلة ما بعد اختفاء الجسر البري، وتباينت التوقعات حول السبب الحقيقي لذلك، حيث يرجح البعض أنها اختفت بسبب المرض، أو بسبب وصول البشر أنفسهم وتعاملهم معها بعنف.

جلب الأوروبيون معهم البذور وشتلات النباتات لزراعة محاصيل العالم القديم مثل القمح، الشعير، العنب والبن في التربة الخصبة التي وجدوها في الأمريكتين، في حين كانت الأطعمة الأساسية التي يأكلها السكان الأصليون في أمريكا، مثل الذرة، البطاطس والفاصوليا، بالإضافة إلى الطماطم، الكاكاو، الفلفل الحار، الفول السوداني، الفانيليا والأناناس، قد وجدت طريقًا إلى أوروبا بفعل التبادل الكولومبي، إلى أن أصبحت منتشرة بكل أرجاء العالم القديم، مما ساعد على إحداث ثورة في النظم الغذائية التقليدية في العديد من البلدان.

الوجه الآخر للعملة

التبادل الكولومبي
التبادل الكولومبي أنهى حياة 90% من سكان الأمريكتين الأصليين.

نعلم بالتأكيد أن الأمور لا يمكن أن تسير على نحو جيد طوال الوقت، فعلى الرغم من المميزات المتعددة التي تسبب بها التبادل الكولومبي، وتحويله العالم لأوطان متشابهة من حيث الإمكانيات، إلا أنه كذلك جلب معه بعض الأضرار التي بدونه لم تكن لتحل على السكان الأصليين للأمريكتين.

جاء الأوربيون إلى الأمريكتين محملين بأمراض وفيروسات العالم القديم جنبًا إلى جنب مع النباتات والبذور والحيوانات، فمنذ أن وطئت أقدام كولومبوس ما يمكن تعريفه بالعالم الجديد، نشرت الخنازير الموجودة على متن سفنه في عام 1493 إنفلونزا الخنازير، والتي كانت أصابت كولومبوس نفسه وأوروبيين آخرين، وهو فيروس قاتل، أنهى حياة الكير من سكان تاينو الأصليين في هيسبانيولا، الذين لم يسبق لهم التعرض لهذا الفيروس.

ويقول المؤرخ الإسباني “بارتولومي دي لاس كاساس” في رواية “بأثر رجعي” عام 1542، تعليقًا على اجتياح فيروس إنفلونزا الخنازير لتاينو.. “كان هناك الكثير من المرض والبؤس، ما أدى إلى وفاة عدد لا يحصى من الآباء والأمهات والأطفال من الجموع في هذه الجزيرة [هيسبانيولا] في عام 1494، وبحلول عام 1506، يُعتقد أنه لم يتبق سوى ثلثهم فقط“.

وصل مرض الجدري إلى هيسبانيولا بحلول عام 1519، وسرعان ما انتشر في البر الرئيسي لأمريكا الوسطى وما وراءها، بالإضافة إلى انتشار الحصبة، الإنفلونزا، الطاعون الدبلي، والحمى القرمزية، الالتهاب الرئوي والملاريا، كان الجدري عبارة عن كارثة حلت على الأمريكيين الأصليين الذين يفتقرون إلى المناعة ضد مثل هذه الأمراض.

على الرغم من أنه من المستحيل معرفة التأثير الدقيق لأمراض العالم القديم على السكان الأصليين في الأمريكتين، تشير بعض تقديرات المؤرخين إلى أن ما بين 80% و95% من السكان الأصليين قد هلكوا الـ100- 150 عامًا بعد وصول كولومبوس عام 1492.

عندما انتقل المرض إلى أوروبا

بالتأكيد كان تأثير الأمراض التي وصلت الأمريكتين عن طريق الأوربيين أكبر وأخطر على حياة السكان الأصليين، لكن يعتقد أن هنالك مرضًا مميتًا واحدًا قد وجد طريقه من الأمريكتين إلى أوروبا بسبب هذا التبادل الكولومبي، وهو مرض الزهري.

حدث أول انتشار معروف لمرض الزهري التناسلي عام 1495، بين القوات التي قادها ملك فرنسا تشارلز الثامن في غزو نابولي، وسرعان ما انتشر في جميع أنحاء أوروبا، آنذاك كان مرضًا مميتًا، لا علاج له، حيث لم يكن البشر قد توصلوا بعد للبنسلين، وكان يتسبب في ظهور أعراض مثل تقرحات الأعضاء التناسلية، الطفح الجلدي، الأورام، الألم الشديد والخرف وغالبًا ما كانت تنتهي الإصابة به بوفاة الشخص المصاب.

طبقًا لإحدى النظريات، يمكن إرجاع أصول مرض الزهري إلى أوروبا لكولومبوس وطاقمه، الذين يُعتقد أنهم اكتسبوا البكتيريا المسببة لمرض الزهري، من السكان الأصليين في هيسبانيولا ونقلوها إلى أوروبا، خاصة وأن بعض أفراد هذا الطاقم قد التحق عند عودته من رحلات الاستكشاف إلى جيش الملك تشارلز، في حين ترجح نظريات أخرى وجود المرض بالعالم القديم من الأساس، قبل أن تظهر بعض الأدلة الطبية التي تؤكد على الارتباط الجيني الموجود بين مرض الزهري ومرض استوائي يُعرف باسم الداء العليقي، الموجود في منطقة نائية في غيانا ما يدعم النظرية التي تدين كولومبوس وطاقمه.

ربما كان لوصول كريتسوفر كولومبوس إلى أرض الأمريكتين أثر ضخم تعدى فكرة اكتشاف العالم الحديث، فقد تغيرت حيوات أعداد هائلة من البشر بعدما تعرضوا لهذا الكم من التبادل التجاري الذي لم يسبق لهم أن يختبروه، كذلك انتهت حيوات الكثيرين، الذين لم يكونوا ليفارقوا الحياة لو لم يأت كولومبوس والتبادل الكولومبي لينشروا الأمراض التي أدت إلى وفاة أكثر من ثلاثة أرباع سكان هذا العالم المستكشف خلال قرن من الزمان.

المصدر
مصدرمصدر 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى