ثقافة ومعرفة

ماري ثارب.. الجيولوجية التي ساعدت في رسم أول خريطة لقاع المحيط

قبل هدم ماري ثارب لهذا الاعتقاد، ولقرون وعقود طويلة، اعتقد العلماء الرجال بعدم وجود أهمية لرسم خريطة لقاع المحيط، لأنه ليس به أية تعرجات أو انحناءات، معلنين أنه قاع مستوٍ، إلى أن ظهرت ماري على الساحة، ووضعت أكبر خريطة مفصلة لقاع المحيط.

ويعرض موقع قل ودل حياة الجيولوجية ماري ثارب في سطور…

مرحلة النشأة والدراسة

ولدت ماري ثارب في 30 يوليو 1920، بمقاطعة «يبسيلانتي» بولاية ميشيغان الأمريكية، لأب يعمل جيولوجيا ومساحا للأراضي بوزارة الزراعة الأمريكية، في مكتب الكيمياء والتربة، ورافقته في طفولتها أثناء جمعه للعينات، وأم تُدعى بيرثا لويز ثارب، عملت مدرّسة للغتين الألمانية واللاتينية، وكانت ماري تحب القراءة وترغب في دراسة الأدب بكلية «سانت جون» في مدينة «أنابوليس» عاصمة ولاية «ماريلاند»، ولكن الجامعة لم تكن تقبل النساء للالتحاق بها في ذلك الوقت، وكانت التخصصات المتاحة لهن هي الموسيقى والإنجليزية، فدرست ماري بجامعة أوهايو، وتخرجت منها عام 1943.

ماري ثارب
ماري ثارب

تغيرات جذرية بعد الحرب العالمية

غيرت الحرب العالمية الثانية الوضع في الولايات المتحدة بشكل جذري، كما قلبت موازين العالم أجمع، فبعد فقد العديد من الرجال في الحرب، أضحى المجتمع في حاجة ماسة لتشجيع النساء على الالتحاق بالتعليم عالي المستوى، والحصول على شهادات في تخصصات، اقتصرت لعقود طويلة على الرجال فقط، كالتخصص بالعلوم الطبيعية والتكنولوجيا.

جيولوجيا النفط

استغلت ماري الظروف بمجرد أن سنحت الفرصة لتحقيق طموحاتها، فالتحقت ببرنامج جامعة ميشيغان الدراسي، وكانت مناهجه تهدف لدراسة جيولوجيا النفط، وأصبحت بذلك أول فتاة تدرس هذا المجال، وأبدت تفوقا على المستوى الدراسي وتخرجت عام 1944، وعملت لفترة قصيرة في صناعة وتكرير البترول، الأمر الذي لم يرض طموحها ولم يشبع رغبتها.

في مجال العمل

قررت ماري عام 1948 استئناف دراستها في جامعة «تلسا» بمدينة تلسا التي نسب للجامعة اسمها، وتخصصت في دراسة علم الرياضيات وانتهت منه بجدارة، والتحقت للعمل بمختبر «لامونت» الجيولوجي التابع لجامعة كولومبيا.

الحرب الباردة والمحيطات

خلال فترة الحرب الباردة، كان هناك العديد من التكهنات حول استخدام الغواصات الحديثة والاعتماد على السلاح البحري أكثر من غيره ما إذ تم إعلان الحرب رسميا، لذلك كانت الأموال المُخصصة للمشاريع الجيولوجية، تذهب أغلبها لدراسة ورسم خريطة لقاع المحيط تكون تفصيلية ودقيقة.

ماري ثارب
ماري ثارب

بيروقراطية تعرقل الإبداع

لظروف غير معروفة، يرجعها البعض للتميز وسيطرة النظام الأبوي، لم يُسمح لماري بالعمل الميداني، حيث التواجد على متن سفن البحث، التي تعبر المحيط سعيا لجمع البيانات والمعلومات من مصادرها الأولية الخام، مما قصر دورها في حساب وتفسير وتصور المعلومات التي تم الحصول عليها، والتي طبعت في لفافة طولها 5000 متر، فضلا عن رسم القياسات بيدها على أوراق من الكتان الأبيض، إلا أن البيروقراطية والتعثرات المالية للمختبر، لم تقف عند ذلك، بل أجبرتها على العمل من المنزل.

تعاون صحح مفاهيم مغلوطة

لمدة 5 سنوات، ظل زملاء ماري في جامعة كولومبيا يعبرون المحيط الأطلسي، ويسجلون أعماقه، مؤكدين أن قاعه سهل مستوٍ، إلا أنه مع عام 1959، عملت ماري بجد على خرائط مختلفة من شأنها أن تصور التضاريس التي لا تزال غير معروفة لأحواض المحيطات، وذلك بمساعدة مشرفها الجيولوجي بروس تشارلز هيزن، المتخصص في البيانات الزلزالية والطبوغرافية، وتشاركا معا في تأليف كتاب وتحدثا إلى عدد من الصحف، وقدما نتائج مذهلة حتى وفاة هيزن عام 1977.

مرحلة نضج علمي

من خلال تفسير تلك البيانات، تمكنت ماري من إثبات ضعف الاعتقاد القائل إن قاع المحيط سهل مسطح من الطين، وأوضحت أنه يحتوي على تضاريس وتعرجات، كما تمكنت ولأول مرة من تحديد مكان بداية الجرف القاري ووجود سلسلة جبال كبيرة تمتد جذورها من قاع المحيط، كما أظهرت خرائطها، فجوة عميقة على شكل حرف V تمتد بطول سلسلة الجبال، لتشكل دليلا على وجود تصدع حدث لكتلة الأرض الواحدة، خرجت من داخلها الصهارة، وشكلت قشرة جديدة وزحزحت الأرض عن بعضها.

وهو ما يثبت النظرية الجذرية التي طرحها العالم الجيولوجي الألماني ألفريد فيجنر، عام 1926، والمتمثلة في أن قارات الأرض كانت متصلة وانفصلت عن بعضها، إلا أن علماء جيولوجيا النفط في اجتماعهم بالجمعية الأمريكية، رفضوا النظرية وسخروا من صانعها، مبررين عدم وجود قوة على الأرض تكفي لتحريك القارات، إلى أن غير ظهور السونار كل شيء.

أول خلاف بين ماري وهيزن

لم تصغ ماري لعلماء الجمعية الأمريكية، ووثقت بما استنتجته، خاصة عندما قارنت صور الصدع بوادٍ آخر متصدع في قارة إفريقيا، وقوبل تفسيرها مرة أخرى بالرفض، بعدما عرضته على هيزن، وأمرها بإعادة رسم خريطة ثانية لقاع المحيط.

في أواخر عام 1952، قام هيزن برحلة في أعماق البحار، بعدما كلف بالبحث ورسم خريطة عن أماكن آمنة لزراعة كابلات الاتصالات عبر الأطلسي، ورسم هيزن في خريطته لقاع المحيط صدعا بوسط المحيط، لاحظه لاحقا بعدما أنهى رحلته، في الوقت الذي أنهت فيه ماري خريطتها الثانية لقاع المحيط ثلاثية الأبعاد، والتي تضمنت رسما للصدع مرة أخرى.

ماري ثارب
ماري ثارب

رحلة قادت لاكتشاف عظيم

وبمطابقة الخريطتين، فوجئ الثنائي بمدى ملاءمتهما، ليقررا الانتقال في رحلة حول المحيط الأطلسي، بدؤوا خلالها في تحليل البيانات في مختلف المحيطات الأخرى، ليستمر شكل الصدع معهم في التكرار والظهور داخل سلاسل جبلية أخرى، تبدو جميعها وكأنها كانت متصلة ببعضها البعض وانقسمت بواسطة التصدعات، مما أسفر عن استنتاج واحد، كتبت عنه ماري، قائلة: «كانت سلسلة الجبال مستمرة ومتصلة بطول الأرض، إلى أن تصدعت بفعل قوى حركتها».

لتصل ماري بذلك إلى اكتشاف عظيم، تسبب في نقلة نوعية في علوم الأرض، متمثلا في وجود سلسلة جبلية من التلال تحت الماء وبمنتصف المحيط تمتد لمسافة 40 ألف ميل تلتف حول العالم بأسره.

نموذج مشرف

تمثل إنجازات ماري ثارب في مجال الخرائط، نموذجا مشرفا واستثنائيا تغلب على العوائق التعليمية وبيئة العمل التي حدت من فرص النساء حينها، لتعد المجال بعدها لباحثين آخرين، طوروا في واحدة من أكثر النظريات الجيولوجية ثورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى