شخصيات مؤثرةثقافة ومعرفة

«حادثة بيتريتش».. وكيف أشعل كلب ضال حربا بين دولتين؟

تتعدد الأسباب التي تؤول في نهاية المطاف إلى الحرب، فمنها ما هو منطقي ومنها ما ليس كذلك، وعلى مر التاريخ، وإذا ما بحثنا عن الأسباب الحقيقية لقيام أبشع الحروب التي عرفتها البشرية، سنكتشف أن السبب الحقيقي لقيامها، لم يكن يستدعي هذا الكم من الدمار الذي تسببت به.

قامت الحرب العالمية الأولى والتي كلفت البشرية خسارة نحو 16 مليون إنسان ما بين مدني وعسكري، والتي ساهمت أيضًا في تغيير شكل القوى السياسية العالمية لسبب أول قد يبدو عاديًا، وهو اغتيال الوريث الشرعي لعرش النمسا على يد مجموعة من الشباب الثوري أثناء زيارته لـ«سراييفو» عاصمة البوسنة والهرسك. لهذا يمكن القول إن قيام أي حرب ما هو إلا نتاج منطقي لما يعرف بتأثير الفراشة.

بالتأكيد لم تتسبب الحرب العالمية الأولى في هذا القدر من الدمار دفاعا عن الوريث الشرعي للنمسا، لكنه فقط كان خيط الفتيل الذي بدأ كل شيء، وإن كنتَ واقعيا، مثل الراهب الفيتنامي «ثيت نات ناهه»، وترى بأن الحكومات والمسؤولين دائما ما تسعى لاختلاق النزاعات والأعداء حتى إن لم يكن هنالك داع لذلك، فقط من أجل التحكم في الشعوب، فأنت في الغالب محق، فكيف يمكن لكلب ضال أن يتسبب في قيام حرب في دولتين؟

فلاشباك

توترت العلاقات بين بلغاريا واليونان منذ بداية القرن الـ20، وبدأت القصة برمتها منذ أن كانتا تحت حكم الإمبراطورية العثمانية الإسلامية التي تضمنت أراضيها العديد من الأعراق والأديان والثقافات، في هذه الفترة، لم تكن هنالك ثمة صراعات بين الدولتين، فقد كان لديهما كل الأسباب المنطقية التي تجعلهما يسعيان للتكاتف والعيش معا، خاصةً وأنهما يتبعان الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية نفسها.

بعد حرب البلقان الأولى، والتي انتصرت خلالها بلغاريا واليونان على الدولة العثمانية بعدما اتحدتا مع الجبل الأسود وصربيا، غنم الاتحاد الفائز (رابطة البلقان) بهذه الحرب نحو 80% من الأراضي العثمانية الأوروبية، وبهذا تم تقسيم الأراضي التي انتزعت من العثمانيين، ليبدأ النزاع بين الدولتين الأصدقاء بالأمس والأعداء اليوم حول أحقية كل منهما في مقدونيا وتراقيا الغربية.

كلب ضال
حروب البلقان

اندلعت أحداث الحرب الثانية رأسًا عقب الأولى، حيث لم تكتفِ بلغاريا بالمناطق التي انتزعتها من حكم العثمانيين في تراقيا وادّعت حقوقًا لها في مناطق العثمانيين السابقة في مقدونيا، كذلك رغبت صربيا واليونان في هذه المناطق، وهي مناطق تحت سيطرتهما عقب حرب البلقان الأولى، وعندما انهارت مفاوضات السلام في يونيو 1913 هاجمت بلغاريا مواقع الصرب واليونانيين في مقدونيا.

تصاعدت التوترات بين اليونان وبلغاريا، فشنت المنظمات المتمركزة في الأراضي البلغارية غارات وهجمات إرهابية على الأراضي اليونانية، وبعد ذلك بفترة قصيرة، اندلعت الحرب العالمية الأولى، ووقفت بلغاريا إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر، وشنت هجومًا على صربيا، وحين انتهت الحرب بانتصار الحلفاء، تمت مكافأة اليونان لوقوفها إلى جانب الفريق الفائز في معاهدة نويي سور سين.

كذلك تكبدت بلغاريا نصيبها مع الجانب الخاسر، فقد اضطرت للتخلي عن تراقيا الغربية، منهية وصولها المباشر إلى بحر إيجة، وكان عليها أيضًا التنازل عن الأرض لمملكة الصرب والكروات والسلوفينيين (التي أصبحت فيما بعد يوغوسلافيا) ونتيجة لذلك، لم تتحسن التوترات بين اليونان وبلغاريا مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

ومع ذلك، لم يعترف الجانب البلغاري بشروط المعاهدة، كما أنهم لم يعتقدوا أن الصراع يجب أن ينتهي فقامت بلغاريا بشن غارات انتقامية على اليونان ويوغوسلافيا، لكن الغارات الأكثر تدميرا كانت من بواسطة المنظمة الثورية المقدونية الداخلية (IMRO) والمنظمة الثورية التراقية الداخلية (ITRO) والتي كانت تدعمها بلغاريا سرًا.

كلب ضال

في عام 1923، وقع «أليكسندر ستامبولسكي»، رئيس وزراء بلغاريا معاهدة نيش، التي تعهد خلالها بقمع أعمال العنف التي تخرج من بلاده تجاه صربيا واليونان، رغبة منه في فتح صفحة جديدة مع القارة الأوروبية، لكن ذلك غالبًا لم ينل استحسان الفصائل اليمينية التي أطاحت به عن طريق انقلاب ساهمت به قوى مختلفة مدعومة من الداخل البلغاري ومن خارجه أيضًا، فتم أسره وتعذيبه بأبشع الطرق، قبل أن يتم قتله بواسطة (IMRO) وقطع رأسه وإرساله إلى صوفيا (عاصمة بلغاريا) داخل علبة بسكويت.

على الحدود اليونانية البلغارية، وتحديدًا في الـ18 من أغسطس 1925، كان أحد الجنود اليونانيين متمركزًا عند هذه النقطة الحدودية (ممر كيمير كابو في بلاتسيتسا)، وإذ فجأة، ولسبب غير معلوم اندفع الكلب الضال الذي اصطحبه الجندي معه إلى مقر خدمته نحو الأراضي البلغارية، ليركض خلفه الجندي كي يثنيه عن ذلك.

يبدو أن الجندي كان يحب ذلك الكلب، لأنه بالتأكيد كان يعلم أن خطوة واحدة داخل الأراضي البلغارية في الغالب ستكلفه حياته، لكنه لم يكترث لذلك على أي حال، وبالتأكيد، لم ينتظره مصير أفضل من الذي تتوقعه، حيث أصيب بطلق ناري في رأسه، أودى بحياته على الفور.

بدأ تبادل إطلاق النار بين الجانبين ردًا على هذه الحادثة المؤسفة، أطلق حرس الحدود اليونانيون طلقات نارية على الجانب البلغاري، فرد البلغار بالمثل، وخلال فترة الهدوء، انتزع قبطان يوناني ومساعده ملاءة بيضاء وركضوا في المنطقة المحرمة على خط النار وطالبوا بالهدوء، لتستغل المقاومة هذه الفرصة، حيث أطلق البلغار النار وقتلوا القبطان وجرحوا المساعد الذي عاد إلى الجانب اليوناني.

طبقًا للرواية التي أقرتها الصحافة اليونانية، لم يتم ذكر الكلب في القصة أساسًا، واقتصرت القصة على أن بعض حرس الحدود البلغاريين اقتحموا الموقع اليوناني في بيلاسيتسا دون سبب، وقتل القبطان اليوناني وأحد الحراس خلال هذه الغارة، دون أن تذكر بقية تفاصيل الحادث.

حادثة بيتريتش

أعربت بلغاريا في النهاية عن أسفها لما حدث للقبطان والجندي اللذين قتلا غدرًا على الحدود، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات الحادث الذي وصف بأنه سوء تفاهم ضخم وليس محاولة لاستفزاز اليونانيين، وربما كانت القصة لتنتهي تمامًا عند هذه النقطة، لولا الفريق ثيودوروس بانغالوس الذي أطاح بملك اليونان قسطنطين الأول، وأسس الجمهورية اليونانية الثانية وقاد الانقلاب الذي نصبه رئيسًا لوزراء البلاد، ثم رئيسًا لها فيما بعد.

حرب الكلب الضال
ثيودور بانغالوس

أعطى بانغالوس إنذارا للبلغاريين، بأن عليهم معاقبة المسؤولين وتقديم اعتذار رسمي، وكذلك دفع 2 مليون فرنك فرنسي كتعويض لأسر الضحايا، ومنحهم مهلة لمدة 48 ساعة فقط للقيام بذلك، أو ستكون هناك عواقب وخيمة. بالطبع تعلم النتيجة، رفضت بلغاريا، لذلك في 22 أكتوبر، أمر بانغالوس قواته بالدخول إلى بلغاريا حيث احتلوا بلدة بيتريتش والقرى المجاورة حيث قاتل البلغار، لكن اليونانيين حافظوا على سيطرتهم على المدينة والمنطقة المحيطة بها.

نتيجة لهذا الغزو، ناشدت بلغاريا عصبة الأمم، فأمرت العصبة بوقف إطلاق النار وطالبت اليونان بالانسحاب الفوري وتعويض بلغاريا عن غزوها، لهذا اتهمت اليونان العصبة بالنفاق، مستشهدة بحادث كورفو عام 1923 عندما هاجمت إيطاليا جزيرة كورفو اليونانية وانحازت الرابطة إلى جانب المهاجمين، وعلق على ذلك بانغالوس.. «عصبة الأمم لديها قاعدتان، واحدة حين تبحث قضية متعلقة بدولة كبيرة مثل إيطاليا، وأخرى حين يتعلق الأمر باليونان».

لم يكن لدى بانغالوس خيار آخر، حيث أرسلت العصبة ملحقين عسكريين من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا للإشراف على انسحاب اليونان، وبما أن  فترة الاحتلال القصيرة، أدت إلى وفاة قرابة الـ50 شخصا بلغاريا، أُمرت اليونان بدفع 45,000 جنيه استرليني كتعويض لهم.

المصدر
طالع الموضوع الأصلي من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى