شخصيات مؤثرةثقافة ومعرفة

ماكسيميليان كولبي.. ولماذا يضحي الإنسان بحياته من أجل غريب؟

يمثل الـ14 من أغسطس من كل عام الذكرى السنوية لمقتل القديس البولندي ماكسيميليان كولبي، ذلك الكاهن الفرنسيسكاني البالغ من العمر 47 عامًا الذي ضحى بحياته بدلاً من شخص غريب في معسكر الاعتقال والموت النازي الألماني في أوشفيتز في بولندا.

ماكسيميليان كولبي
القديس ماكسيميليان كولبي.

في أوج الحرب العالمية الثانية، اعتقل القس ماكسيميليان كولبي من قبل القوات النازية التابعة للزعيم الألماني أدولف هتلر بتهمة مساعدة اليهود والانضمام لجماعات بولندية سرية، ليسجن في وارسو، من ثم يتم ترحيله إلى معسكرات الموت في أوشفيتز، حيث تم تجريده من هويته الفرنسيسكانية ومنحه رقم 16670، بينما أجبر على القيام بأكثر الوظائف مهينة مثل حمل الجثث إلى محرقة الجثث، ومع ذلك، استمر في العمل الخيري، والذي تعرض للضرب المبرح من قبل الحراس بسببه.

اتخذت الأمور منعطفًا دراماتيكيًا في نهاية يوليو 1941، عندما فر سجين من معسكر أوشفيتز، وردًا على ذلك، اختار نائب قائد المعسكر 10 رجال ليموتوا جوعا في ملجأ تحت الأرض لردع المزيد من محاولات الهروب، وعندما صرخ أحد الرجال المختارين، يدعى «فرانسيسك جاجونيتشيك»، «زوجتي! أطفالي!»، تطوع كولبي للموت بدلاً منه، بحجة أنه كاهن كاثوليكي وأكبر من غاجونيتشيك.

«أكبر مظاهر الحُب، هو أن يضحي المرء بحياته من أجل أصدقائه»

-القديس ماكسيميليان كولبي.

قبل القائد ذلك العرض، ووافق على أن يتم استبدال جاجونيتشك بكولبي، ويقول «بولس الثالث»، في حق ماكسيميليان كولبي، إن الكاهن قدم حياته مقابل حياة زوج وأب لولدين، في حين لم يكن من المتصور أن يتم قبول هذا الاقتراح، بل كان من المرجح أن يتم إضافة الكاهن إلى العشرة أشخاص الذين سوف يواجهون مصيرهم دون طعام أو شراب تحت الأرض.

تحت الأرض

ماكسيميليان كولبي

بالفعل تم حبس الكاهن داخل هذا الملجأ، دون طعام أو ماء، وبحسب شاهد عيان، كان يعمل مساعد بواب في ذلك الوقت، فقد أمضى كولبي أيامه الأخيرة واقفًا أو راكعًا في الزنزانة وينظر بهدوء إلى كل من يتم اقتيادهم إليها، وبعد أن تم تجويعهم وحرمانهم من الماء لمدة أسبوعين، لم يتبق سوى كولبي فقط على قيد الحياة.

بعد هذه الفترة؛ أرادت إدارة سجن أوشفيتز إفراغ المخبأ من المسجونين، بالتالي كان لا بُد من أن يُعدم ماكسيميليان كولبي، خاصةً وأنه ظل متماسكًا، وفي 14 أغسطس 1941، بدأ الحراس في حقنه بحقنة قاتلة من حمض الكاربوليك، ويقال إن كولبي رفع ذراعه اليسرى وانتظر بهدوء انتهاء حياته.

لماذا يمكن أن يضحي الإنسان بحياته؟

بغض النظر عن قصة ماكسيميليان كولبي، يظل السؤال الأهم الآن؛ ما الذي يمكن أن يدفع إنسانًا للتضحية بحياته لينقذ شخصًا آخر، مع التأكيد على كون الآخر غريبًا عنه؟

الحقيقة المؤكدة هي أن البشر مبرمجون وراثيا للبحث عن البقاء، بالتالي، التضحية بالنفس من أجل الآخر شيء لا معنى له، على الأقل من وجهة نظر منطقية، لكن لطالما كان هنالك حالات نادرة مثل ماكسيميليان كولبي تخبرنا بأنه من الممكن أن تسقط غريزة البقاء في بعض الحالات.

في روايته «Tale of Two Cities»، يحكي كاتب تشارلز ديكنز، عن رجلين ‑تشارلز دارناي وسيدني كارتون- قد وقعا في حب نفس المرأة، التي تزوجها تشارلز دارناي وأنجب منها طفلًا.

لكن عندما تم القبض على دارناي ليتم إعدامه على المقصلة أثناء الثورة الفرنسية، سارع كارتون لإنقاذه ببطولة وضحى بحياته حتى يتمكن دارناي ولوسي وطفلهما من العيش معًا في سعادة دائمة بعد ذلك، وإذا ما افترضنا أن الروايات الأدبية ما هي إلا انعكاس لمواقف يمكن حدوثها، إذن، ما فعله كارتون من الممكن جدًا أن يتكرر، لكن لماذا؟

قانون هاملتون.. سيكولوجية التضحية بالنفس

القاعدة العامة هي أن الناس هم أكثر عرضة للتضحية بأرواحهم من أجل أولئك الذين من المرجح أنهم في حاجة للمساعدة، بالتالي وإذا حاولنا ربط غريزة البقاء بالتضحية بالنفس في سياق واحد، قد نصل إلى فكرة متماسكة، وهي أنه إن كان لا بد من أن يضحي الإنسان بحياته من أجل شخص آخر، فغالبًا سيكون هذا الشخص هو أحد أفراد عائلته.

الأسباب بديهية جدًا؛ يشترك أفراد عائلتنا معنا في معظم جيناتنا، لذلك، إذا قررنا أن نساعدهم على البقاء والتكاثر، فنحن نساعد جيناتنا بشكل غير مباشر على البقاء والتكاثر، وبالتالي، من المرجح أن نساعد أولئك المرتبطين بنا، فكلما زاد الارتباط الجيني، زادت مساعدتنا.

لأننا لم نُجب عن السؤال

بالعودة إلى قصة ماكسيميليان كولبي المؤثرة، لم يكُن زميله بالمعتقل أحد أفراد عائلته، بالتالي تنهار في هذه الحالة فرضية هاملتون، حيث إن بقاءه حيًا لن يعني بقاء جينات كولبي، وإذا ما تجنبنا الحديث عن كون ماكسيميليان راهبًا أو قسًا، قد نرى بأن ما اقترفه جنونًا، وليس إنسانية.

إذن، لماذا قد يضحي إنسان بحياته من أجل آخر لا يعرفه؟ النقطة الأساسية التي يجب تذكرها هي أن قاعدة هاملتون لا تزال سارية، لدى البشر تنوع جيني قليل نسبيًا مقارنة بمعظم أنواع الثدييات، وأحد أسباب ذلك هو أن جنسنا البشري صغير جدًا ولم تتح له الفرصة للتطور حتى الآن لخلق الكثير من التنوع داخل جنسنا البشري.

وبالتالي، إذا ساعدنا شخصًا غريبًا تمامًا أو صديقًا غير ذي صلة، فلا تزال هناك فرصة لأن تنتقل معظم جيناتنا إلى الجيل التالي، لذا نعم، يمكن أن تحدث التضحية بالنفس من أجل شخص غريب ولكنه أمر نادر جدًا ويتطلب ظروفًا خاصة.

الإجابة بديهية

ماكسيميليان كولبي
حصار لينينجارد، روسيا (1941–1944).

أثناء حصار لينينغراد، عندما مات الملايين من الناس جوعًا في روسيا، كان العلماء في بنك بذور بافلوفسك محاطين بأشياء يمكنهم تناولها، لكنهم اختاروا ألا يأكلوا أي شيء، بمعنىً أصح، اختاروا الموت جوعا.

هذا مثال قوي على سيكولوجية التضحية بالنفس، لفهم هذه التضحية الملهمة، ضع في اعتبارك ما كان سيحدث لو اختاروا أن يأكلوا ويعيشوا، كانت البيئة لا تزال قاسية، حتى لو ظلّوا على قيد الحياة، كانوا يعلمون (دون وعي) أن محاولتهم للبقاء على قيد الحياة والتكاثر ستفشل على أي حال، وبالتالي، اختاروا الحفاظ على الطعام الذي يمكن للأجيال الروسية المستقبلية الاستفادة منه، على أمل أن يحظوا بفرص بقاء أفضل في المستقبل.

بنفس السياق؛ أظهرت دراسة حديثة نُشرت في مجلة «Nature» أن التجارب السلبية المشتركة هي آلية قوية لتعزيز السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، والتي في ظل ظروف معينة يمكن أن تكون مكلفة للغاية للأفراد المعنيين، ففي ظل هذه الظروف، من المحتمل أن يكون وجود مستقبل تطوري مشترك عاملاً أكثر حسمًا في التضحية بالنفس من الأصل المشترك.

لهذا؛ يمكننا أن نتفهم تطوع ماكسيمليان كولبي للموت بدلًا من فرانسيسك جاجونيتشيك، ويمكننا كذلك التأكيد على أن القصة التي نسجها تشارلز دكنز لم تكن خيالًا علميًا، بل واقعًا إذا توافرت الظروف من الممكن أن يتحقق.

المصدر
مصدرمصدر 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى