شخصيات مؤثرةرياضة

جورجينهو.. ورحلة المستحيل بين البرازيل وإيطاليا

أنت تعرف في الغالب نصف الحقيقة، النصف المضيء، الجذّاب، تعرف جورجينهو، بطل دوري أبطال أوروبا، والمتوج بكأس الأمم الأوروبية 2020، لكن الأهم دائمًا هي الرحلة خلف أي إنجاز، الطريق المتعرج الذي تسلكه قبل أن تستقيم الحياة، ماذا حدث قبل أن يصل ‑برازيلي الأصل- إلى لندن؟ بل بالأحرى، كيف وصل متوسط ميدان نابولي الأسبق إلى هناك؟

جورجينهو.. أنا برازيلي

جورجينهو
طفولة جورجينهو بالبرازيل.

دعنا نبدأ بالبديهيات؛ بمجرد نطق اسم لاعب الوسط الإيطالي، ستدرك أنه يمتلك أصولًا برازيلية، وبما أنَّه برازيلي، أو كان كذلك حين كان طفلًا، لا نحتاج أن نخبرك بأن طفولته كانت قاسية، كأي لاعب كرة قدم برازيلي، أنقذته هذه اللعبة من مصير بائس، لكننا هنا لنخبرك إلى أي درجة كانت طفولته بائسة.

موهبة جورجينهو

ولد جورجي فريللو فيلهو كافيليري أومري، المعروف اختصارًا بـ«جورجينهو»، بحي «إمبيتوبا» في ولاية «سانتا كاتارينا» بالبرازيل عام 1991، ممتلكًا حبًا فطريًا لكرة القدم، مثل معظم أبناء جلدته، لدرجة أنه حين كان بالخامسة فقط من عمره، كان يجيب عن ذلك السؤال الممل حول ماذا يُريد أن يصبح حين يشتد عوده بمنتهى الصرامة، بأنه يريد فقط أن يصبح لاعب كرة قدم.

نصيحة أب

وكأي والد يريد أن يمارس سلطته الأبوية على نجله، أخبر فريللو صغيره بأن كرة القدم ليست عملًا مثاليًا له، كما أنها بالتأكيد لا علاقة لها بما يراه على شاشات التلفاز، فبحكم خبرته في الحياة، اختصر على الصغير الطريق، موضحًا له أن عالم كرة القدم ليس ورديًا، ولا تضمن الموهبة نجاحًا ملموسًا به، بل قبل ذلك، عليه أن يتحمّل الكثير من الأذى، البكاء، وربما السرقة، لكن ذلك لم يزحزح من موقف جورجي حيال الكرة، هو مُصمم على أن يصبح لاعبًا، مهما كلفه الأمر.

في مواجهة الحقيقة

ظل جورجي متعلقًا بحلمه البريء، وظنّ أنه ربما قد وضع قدمه الصغيرة داخل هذا العالم السحري حين سمح له والداه بأن يلتحق بأحد معسكرات التدريب على كرة القدم في بلدية «جوابيروبا» التي تبعد نحو 100 ميل عن محل إقامة عائلته، مع وعدٍ بأن يحظى بفرصة الاحتراف بأوروبا إن أظهر مستوىً جيدًا، وتحمّل بعض ضرائب النجاح مثل النوم في غرفة واحدة بجوار 50 من اللاعبين.

في «جوابيروبا» اصطدم جورجينهو بالواقع الذي أخبره به والده منذ سنوات، فحين كان بعمر الـ13 فقط، كان عليه أن يتأقلم مع حياة أشبه بالحياة العسكرية، دون أن يُبديَ امتعاضًا، وإلا عليه أن يتخلى عن حلمه.

«كانت غرفنا قذرة، وكان علينا أن نأكل نفس الطعام لثلاث مرّات بنفس اليوم».

-جورجينهو، نجم وسط تشيلسي الإنجليزي عن فترة تواجده بمعسكر جوابيروبا التدريبي.

كانت فترة تواجد جورجي في جوابيروبا صعبة بالفعل، حيث كان بين نارين، بل للأمانة ثلاث، فداخل المعسكر؛ الحياة لا تطاق، لم يكن هناك ماء ساخن في الحمامات، ولا حتى في فصل الشتاء، النظافة آخر ما يشغل بال المسؤولين، أما خارجه؛ فكانت العصابات المحلية تحاول سلب اللاعبين الصغار، بينما النار الثالثة مفهومة ضمنيًا، وهي أن يستسلم لحقيقة أنها حياة لا آدمية، بالتالي يتنازل عن فرصه في أن يصبح لاعب كرة قدم محترفا، وهو ما رفضه دون تفكير.

بعد أسابيع من تواجده داخل ذلك المعسكر، رأت والدة جورجينهو عند زيارتها له لأول مرة الظروف المزرية التي يعيشها نجلها، بالتالي أصرّت على أن تصطحبه إلى المنزل، على الرغم من إدراكها لما تعنيه له هذه الفرصة، لكنه لم يستسلم لمطالباتها، وأخبرها بأن سيظل يلومها إلى الأبد إن لم تتركه يكمل رحلته للنهاية.

 «هذه فرصتي، لا يهمني ما سأعاني منه، يمكنني تناول نفس الطعام لمدة 10 أيام، يمكنني الذهاب إلى مرحاض متسخ. هذا لا شيء!»

-جورجينهو مخاطبًا والدته.

 

كانت تلك إحدى أكبر الصدمات التي تعرّض لها الصبي الموهوب، لأن والدته لم تكن مثل باقي النساء، لأنها انحدرت من عائلة تلعب كرة القدم، بل إنها تلعب كرة القدم بشكلٍ جيد، ربما ورث جورجي موهبته منها من الأساس، فقد كانت تتبادل التمريرات مع نجلها على الشاطئ، وتخبره بما يجب عليه فعله بالكرة كي يصبح لاعبًا أفضل.

بالتالي عند مطالبتها له بترك المعسكر والعودة إلى المنزل، شعر بالارتباك، فكيف يمكن لها أن تثنيه عن استكمال رحلته مع الكرة، خاصةً وأنها من دفعته للتعلّق بها. على أي حالٍ، استنتج جورجي أنها فقط كانت تريد الأفضل له، والواقع لا يبشّر بشيء جيد في المستقبل القريب.

 فيرونا.. خطوة على الطريق

جورجينهو

دعنا نخبرك أنَّ جورجينهو، الحاصل على جائزة أفضل لاعب كرة قدم بأوروبا للعام 2021، قد سبق له وأن تم رفضه من قبل الثلاثة أندية البرازيلية الكُبرى حين ذهب لإجراء الاختبارات، وربما كان عزاؤه الوحيد اشتراكه مع الظاهرة البرازيلية رونالدو الذي تم رفضه هو الآخر منذ سنوات عديدة من قبل نفس الأندية، قبل أن يتحول لأفضل لاعب بالعالم بعد ذلك بسنواتٍ.

ناشئي فيرونا

كل ذلك لا يهم، فبعد عامين من الشقاء في جوابيروبا، كان أحد وكلاء اللاعبين ‑الذي ضم جورجينهو لمعسكر التدريب بالبرازيل- كان قد استطاع أن يجعله يلتحق بفريق الناشئين بفيرونا الإيطالي، كان ذلك بمثابة قفزة ضخمة في حياة البرازيلي، هو الآن بإيطاليا، الآن أصبح كل شيء ممكنًا.

هل كان العائد المادي مجديًا؟

كانت الـ3 أشهر الأولى من حياة صاحب الـ16 عامًا آنذاك جميلة، لكن بمرور الوقت أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا، لأنه لم يكن يمتلك أدنى فكرة عن موعد عودته للبرازيل مجددًا، كما أن راتبه لم يكن يتخطى الـ20 يورو أسبوعيًا، يحصل عليها من وكيل أعماله وليس من النادي، وكان يصرفها على نفس الأشياء؛ 5 يوروهات للتواصل مع عائلته في البرازيل، والمزيد من أجل الشامبو ومزيل العرق ومعجون الأسنان، وفي عطلة نهاية الأسبوع، يصرف الباقي في مقهى إنترنت للدردشة مع الأصدقاء والعائلة على موقع «MSN».

يخبرنا جورجينهو أنه لم يكن بمقدوره أن يعيش مثل بقية من هم في عمره، حتى بعد أن أصبح لاعبًا أجنبيًا لفيرونا، فالـ20 يورو لا تكفي ليفعل أي شيء باستثناء ما ذكرناه أعلاه، لكنه كان أحيانًا يحاول الترفيه عن نفسه بالذهاب إلى الساحة الرئيسية بفيرونا، ابتياع اللبن المخفوق من «ماكدونالدز» مقابل يورو واحد، لأنه لا يستطيع شراء وجبة برجر، لماذا؟ لأنها للأغنياء يا صديقي.

هكذا كان يمضي أيام السبت، يجلس على الدرج، يشرب اللبن المخفوق الذي كلفه 1/20 من راتبه الأسبوعي، يراقب الناس يأتون ويمضون، ويستمتع بمتابعة السياح والطيور بينما يفكّر في حلمه الذي يطارده منذ سنوات.

تحولات في حياة بطل أوروبا

كان جورجينهو وحيدًا منذ أن اتخذ قرارًا بأن يلعب كرة القدم، عامين في معسكر لا آدمي في البرازيل، سنة ونصف بعيدًا عن عائلته بإيطاليا، لكن القشة التي قسمت ظهره كانت عندما ظنّ بأن الحياة ابتسمت له، حين حظي بفرصة التدرّب لأول مرة مع الفريق الأول بفيرونا، وقتئذٍ، نشب خلاف بينه وبين وكيل أعماله، نتج عنه انفصالهما إلى الأبد.

الدعم الأسري

عندئذ، لم يجد جورجي أحدًا ليلجأ إليه سوى والدته، أخبرها بأنه قد استسلم، لا يقوى على مواجهة العالم بمفرده، بل إنه قد قرر العودة مجددًا للبرازيل، لكن والدته رفضت رفضًا قاطعًا، مغلقةً باب العودة في وجهه قائلة: «إذا عدت للمنزل، لن أفتح الباب لك».

كرر صاحب الـ17 عامًا وقتئذ نفس المكالمة لوالده، الذي كان قد انفصل عن والدته، ثم شقيقته الأكبر سنًا، وكلهم اتفقوا دونما اتفاق على رفض عودته، ربما كانت تلك لحظة لم يستطع جورجينهو استيعابها أو تقبلها، كيف ترفضه عائلته؟ لكنهم كانوا أقوياء بما فيه الكفاية ليمتصوا حزنه، وقابليته للاستسلام، خاصةً وأنه كان قد وصل لنقطة مميزة بعد كل معاناته، بالتالي قد يصل إلى ما يحلُم به قريبًا، هكذا طمأنه والده.

حين ابتسم القدر

جورجينهو
جورجينهو وماوريتسيو ساري.

لحسن الحظ، لقد استمع جورجينهو لنصيحة عائلته، وفي اللحظة التي قرر بها الاستمرار والمحاربة، وجد وكيلًا جديدًا، يدعى «جواو سانتوس»، كما كون صداقةً قويةً مع رافاييل الذي كان حارس مرمى في فيرونا، الذي كان له دور محوري في حياة البرازيلي، فعندما كان يتقاضى 20 يورو في الأسبوع، اصطحبه رافاييل إلى منزله واشترى له الطعام والملابس، باختصار؛ كان لجواو ورافائيل جزء كبير من الفضل في اقتحام جورجي لفريق فيرونا الأول في عام 2011.

رحلته في نابولي

انتقل جورجينهو إلى نابولي عام 2014، وهنا يمكننا أن نصف هذه اللحظة بـ«لحظة ابتسام القدر»، حيث إن نابولي مدينة كرة القدم، النابوليتان يعاملون لاعبي كرة القدم بقدر ضخم من التبجيل والاحترام، وبما أنَّ جورجي كان أحد القطع الأساسية للمدرب الإيطالي ماوريتسيو ساري، الذي وصل كمدرب للفريق في 2015، أصبح لاعب الوسط نجم شباك.

أو بمعنىً أوضح، بطلًا شعبيًا لشعب يقتات على الاستمتاع بكرة القدم، لدرجة أن مجرد الذهاب لابتياع بعض الأغراض من «السوبر ماركت» كان يتطلب خطة محكمة منه للهروب من المشجعين الذين ينبهرون بمجرد مشاهدة أي لاعب من لاعبي فريقهم، فما بالك بأحد نجوم الفريق.

محطة تشيلسي

دون شكٍ كان انتقال جورجينهو لتشيلسي الإنجليزي صيف 2018 مثار جدل، لا لقلة جودته، لكن لاعتباره النجل المدلل لمدربه ماوريتسيو الذي استعان به فور تعيينه مدربًا للفريق، وهو الأمر الذي سئم منه متوسط الميدان الموهوب كثيرًا، واعتبره تقليلًا من شأنه.

لكن الحقيقة هي أن جورجي قد حظي ببدايات سيئة بكل نادٍ لعب لصفوفه، لم يكن مطلبًا بيوم ما؛ ففي فيرونا أُرسل على سبيل الإعارة لإيمبولي، كما كان أول عام له مع نابولي صعبًا، قبل أن يأتي ساري ويتغير كل شيء بداية من العام الثاني، بالتالي استخدم النقد الذي تعرّض له بموسمه الأول في تشيلسي كوقود يدفعه للأمام.

معانقة الأحلام

جورجينهو
إيطاليا تتوج بيورو 2020.

مع تشيلسي استطاع رفقة الفريق أن يتوج بلقب الدوري الأوروبي، بآخر مواسم ساري مع الفريق، لكن لحظات لا يمكن أن تقارن بلحظة تتويج الفريق بلقب دوري أبطال أوروبا 2021، لكن لسوء الحظ، أو حسنه، لا ندري حقيقةً، لم يكن هنالك وقتٌ للاحتفال، لأن جورجينهو كان عليه أن يستعد جيدًا لخوض غمار بطولة أمم أوروبا مع منتخب إيطاليا.

يزعم جورجي أن اختياره لتمثيل منتخب إيطاليا كان سهلاً، حيث إن البرازيل لم تمنحه فرصة لتحقيق حلمه، بينما اختارته إيطاليا، على الرغم من أنه قد ولد في بلد آخر، كما أن جده الأكبر كان إيطاليًا من الأساس، وهو ما مكنه من اللعب لإيطاليا، باختصار؛ شعر أنه إيطالي، ربما لأنه قضى ما يقرب من نصف حياته هناك، فكيف يمكن له أن يدير ظهره لهم؟

بنهائي اليورو، أهدر جورجينهو ركلة ترجيح، لكن في نهاية المطاف توج المنتخب الإيطالي بالبطولة، هنا ربما توقف الزمن، ليستعيد برازيلي المنشأ شريط حياته في لحظات وهو مستلقٍ يبكي على الأرض، تذكر الصبي الذي عانى منذ نعومة أظفاره، محادثاته اليائسة مع والديه، الغربة، الـ20 يورو، ورحلته للساحة مع مشروبه بفيرونا.

استنتج جورجينهو من رحلته حقيقتين، الأولى هي أنه مهما بلغت مهاراتك لن تبلغ القمة دون مساعدة من الآخرين، والثانية وهي الأهم، أن المقاومة وعدم الاستسلام هي أكبر نصيحة يمكن أن تقدّم لصغير يطارد حلمه.

المصدر
مصدر مصدر 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى