ثقافة ومعرفة

هل يسعى الإنسان إلى العدالة أم الإنصاف؟

السعي لتحقيق العدالة هدف سامٍ بكل تأكيد، على الرغم من اعترافنا بصعوبة الوصول إليه، ببساطة لأن الحياة ليست عادلة، على الأقل مع الجميع، هذه حقيقة مؤلمة بالطبع، لكن السؤال الأهم الآن، ماذا لو أدرّ علينا الظلم ربحًا، هل نرتضي به، أم نتمسّك بالمبادئ التي ولدنا حاملين لها؟

ما هي العدالة؟

العدالة هي مفهوم أخلاقي يقوم على الحق، الأخلاق والقانون، وتهدف لتحقيق المساواة والتوازن ما بين مصلحة الفرد والمجتمع، لكن الأكيد، أن نظريات العدالة لا تختلف باختلاف المجتمع، ومع ذلك قد تختلف طريقة تطبيق مفاهيمها.

بمعنى أوضح لا يعني تطبيق العدل عبر القوانين الوضعية داخل المحاكم الوصول للغاية نفسها، لأن القوانين الموجودة بالمحاكم من صنع البشر، في الأغلب صُممت لتخدم مصالح الأقوى، لذلك فقد تنسجم القوانين التي تحكم العالم مع مفهوم العدالة وقد تختلف معه.

فلسفيًا؛ اعتقد أفلاطون أن العدالة فضيلة إنسانية أساسية، يجب أن يتحلى بها كل إنسان، ليضع أقسام الروح الثلاثة (الرغبة- الشجاعة- الوعي) في حالة توازن دائمة، بينما جادل أرسطو ذلك الطرح، لاعتباره أن السعي لتحقيق العدل ليس فضيلة أساسية، بل عمل خيري ونوع من أنواع التضحية من أجل الآخر.

وللإجابة على السؤال الذي طرح في بداية الموضوع، يمكننا أن نستعين بإحدى التجارب التي أثبتت أن الكائنات الحية تسعى دائمًا للعيش في بيئة عادلة، بشكل مجرّد، دون أي محفزّات.

«اقرأ أيضًا: الديمقراطية الأولى.. وكيف كانت الحياة السياسية باليونان القديمة؟»

تجربة قرود الكابوشي

العدالة
تجربة قرود الكابوشي

ظهر البروفيسور فرانس دي وال، أستاذ الرئيسيات بجامعة إيموري، في مقطع مصوّر ليشرح من خلاله نتائج بحث أقامه على نوع من القرود ومدى تأثيره على حياة البشر.

خلال هذه التجربة تم نقل قرود من فصيلة «الكبوشي» إلى أقفاص متجاورة وتم تدريبها على تسليم أحجار صغيرة مقابل مكافآت غذائية، ووجد الباحثون أن القرد النموذجي سيسعد بتسليم حجر بعد حجر عندما يكافأ مقابل كل تبادل بشريحة من الخيار.

لكن قرود «الكبوشي» تفضل العنب على شرائح الخيار، بالتالي إذا دفع الباحثون لأحد القرود ثمرة من العنب مقابل تسليمه للحجر، فإن القرد الموجود في القفص المجاور، الذي كان سعيدًا في السابق بالعمل من أجل الخيار، يصبح مهتاجًا ويرفض قبول الدفع مقابل شرائح الخيار.

ذلك يعني أنّ ما كان مقبولًا في يوم من الأيام سرعان ما أصبح غير مقبول عندما كان من الواضح أن أحد الجيران يحصل على مكافأة أفضل مقابل نفس الجهد الذي يبذله، وهذا ينقلنا لحقيقة تبدو بديهيةً، وهي أن الكائنات الحية في العموم، ترغب في تحقيق العدالة.

حقيقة ليس عليك أن تكون عالمًا نفسيًا لتتأكد أن البشر يمكن أن يشعروا إلى حد كبير مثل القرد الذي يتقاضى راتبًا منخفضًا مقابل عمله، حيث يجادل دي وال أن هذه النتائج وأمثالها تُظهر أن المشاعر الأخلاقية هي جزء من ميراثنا البيولوجي، نتيجة لحياة الأجداد التي سيطرت عليها مجموعات بعينها، بالتالي كانت هنالك حاجةً إلى الانسجام بين أعضاء المجموعة دون امتعاض.

«اقرأ أيضًا: السود والرياضة.. كيف تخطى جاكي روبينسون عنصرية البيسبول؟»

هل هذا دليل؟

بالتأكيد لا تقدم التجربة أعلاه دليلًا قويًا على أن القردة تريد العدالة بشكل مطلق، حيث يغضب القرد الذي يحصل على أجر منخفض، بينما ليس لدينا دليل على أن القرد الذي يحصل على أجر أفضل غير سعيد بشأن الموقف، لذلك يتوجب علينا الانتقال للبشر، على سبيل المقارنة، يمكننا أن نجد دليلًا أقوى على أن غريزة الإنصاف يمكن أن تتواجد داخل أنفسنا حتى في أشد المواقف تنافسية.

هل نرفض الظلم؟

العدالة

بعيدًا عن فرانس دي وال وقروده، يُصنف اللاعبون في الاتحاد الوطني لكرة السلة في الولايات المتحدة على أنهم من بين الرياضيين الأعلى دخلاً في العالم، ففي موسم 2007–2008 على سبيل المثال، حصل أفضلهم على رواتب تزيد على 20 مليون دولار (13.5 مليون جنيه استرليني)، وكان أكثر من 50 عضوًا في الدوري يتلقون رواتب تبلغ 10 ملايين دولار (6.7 مليون جنيه استرليني) أو أكثر.

كان هذا الموسم مثيرًا للاهتمام لأنه عندما قام عالما النفس «جرايم هاينز» و«توماس جيلوفيتش» بمراجعة تسجيلات أكثر من 100 مباراة في الدوري الأمريكي للمحترفين، بحثًا عن مناسبات تم احتساب الأخطاء فيها من قبل الحكام في مناسبات كان واضحًا للاعبين أنه لم يكن من العدالة احتسابها لصالحهم.

وإن كنت غير ملم بقوانين لعبة كرة السلة، دعنا نخبرك أنّه عندما يتم احتساب خطأ، يحصل اللاعب المظلوم على عدد من الرميات الحرة (فرص تسجيل نقاط لفريقهم)، لذلك كان هاينز وجالوفيتش مهتمين بكيفية رد فعل هؤلاء الرياضيين ذوي القدرة التنافسية الفائقة وذوي الأجور المرتفعة على منحهم رميات حرة على الرغم من معرفتهم المسبقة بأنهم لا يستحقونها بالفعل.

كان لدى هؤلاء اللاعبين كل الحافز لتحقيق أقصى استفادة من الرميات الحرة، بغض النظر عن كسبها بشكل غير عادل، بغض النظر عن التفاصيل، فإنهم يكسبون رزقهم من الفوز، ويمكن للنقاط المكتسبة من الرميات الحرة أن تحسم المباراة بالفعل، ومع ذلك، وجد هاينز وجيلوفيتش أن دقة رمي اللاعبين للرميات الحرة الممنوحة بشكل غير عادل كانت منخفضة بشكل غير عادي، بمعنى أوضح كان منخفضًا مقارنة بمتوسط ​الرميات الحرة في الدوري في العموم، ومقارنة بالمعدلات الشخصية للرمية الحرة للاعبين نفسهم.

حتى نضع هذه النتائج داخل سياق موضوعي، كانت الدقة في الرميات الحرة الممنوحة بطريقة غير عادلة في أدنى مستوياتها عندما كان فريق اللاعب متقدمًا ولم يكن في حاجة إلى النقاط كثيرًا، ولكن كان أيضًا أقل من المتوسط ​​عندما كان الفريق متأخراً ويحتاج إلى نقاط.

هنا توصل العالمان لطرح منطقي من وجهة نظرهما، وهو أن الشعور بالذنب أثّر بشكل ما على أداء على مجموعة من أكثر البشر احترافية وسعيًا للفوز على الأرض، وربما يوحي ذلك أنّ غريزة العدالة يمكن أن تنجو حتى في أكثر البيئات قسوة.

في النهاية، لا يمكننا أن نصبغ البشر بصبغة واحدة بناءً على نتائج هذه التجربة العشوائية أو تلك، لكن في نفس الوقت يمكن الإشارة إلى أن الرغبة في العدالة سلوك ربما يولد مع ولادة البشر، ويتخطى أحيانًا بحثه عن الإنصاف، خاصةً وأن بعض المبررات مثل كسب الرزق والمنافسة قد تفي بالغرض لتفسير تقبّل المكسب غير المشروع، لكن من الواضح أن هنالك ‑تعرّض الغير للظلم- ما لا يجعله كذلك وضعًا مريحًا.

المصدر
مصدر مصدر 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى