آراء ومساهمات

سامح مبروك يكتب: ترندات وتوباكو.. «اثبت صنم»

ترندات وتوباكو

الفسحة

دق الجرس العتيق في الممر الداخلي لمدرسة الشهداء معلنًا انتهاء الحصة التعليمية الثالثة وبداية الفسحة المجيدة، ذلك الجرس الذي تُلاعب دقاته في هذا التوقيت معدة وعقل وقلب «عادل»، فقد كان عادل قد وصل مرحلة من الضجر والجوع والملل لا تستطيع الكلمات وصفها بعد حصة الدراسات الاجتماعية للأستاذ «ربيع»، تلك المادة التي استعصى عليه دوما فهمها، فضلا عن استيعاب الهدف من دراستها في الأساس. على أية حال ها هي الفسحة قد حانت وحان معها وقت اللعب والأكل والمرح.

عادل الطفل البليد الكسول الأكول، ينعته أهله وأصدقاؤه «عدول» أما المقربون فقد أجمعوا على تسميته «كعبول»، وليس لحبه لمسلسل الرسوم المتحركة الذي يحمل ذات الاسم، وإنما لتلك الصفات المشتركة بينه وبين بطل تلك الحلقات «كعبول الأكول».

خرج عادل يتهادى بخطوات واثقة نحو فناء المدرسة لما كان يحمله في جيبه في هذا اليوم من نقود كان قد حازها في اليوم السابق، ولهذا كانت وجهته الأولى حبه الأول والأخير «الكانتين»، وهناك اشترى «كيس قلبظ» الذي كان بالصدفة البحتة يشبهه أيضًا — وكثيرًا — بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الحلويات المتنوعة الأخرى، فقد كان الربع جنيه الكامل الذي حازه من أمه بالأمس ثروة فعلية.

أصدقاء السوء

بعد أن فرغ عادل من أكل ما تستهويه نفسه من أصناف الكانتين المحدودة، كانت قد تبقت دقائق محدودة من زمن الفسحة، اتجه نحو تلك البقعة من الفناء التي يجتمع فيها وأصدقاؤه المقربون «أصدقاء السوء»، وما كان من شيء يجمعهم سويًا سوى الكراهية، كراهية الدراسة، كراهية الالتزام، كراهية التعليم، كراهية الطلبة المجتهدين، وبالطبع بعض الحب للعب والشجار، لذلك فهم حرفيا أصدقاء سوء، وجد أصدقاءه مصطفين في حلقة يحاولون توحيد الرأي نحو ماهية اللعبة التي سيلعبونها في الدقائق التالية قبل جرس انتهاء الفسحة، وكما جرت عادتهم سوف يتلكؤون كثيرًا في العودة للصف إلى أن يرسل مدرس كل صف لهم من يستدعيهم على وجه السرعة وإلا يواجهون عقوبة الغياب.

استمر الجدال والشجار دون الاتفاق ودق جرس انتهاء الفسحة ولم ينته اجتماعهم، خلا الفناء من معظم الطلبة إلا هؤلاء ومن هم على شاكلة كعبول وأصدقائه، ووسط صخب جدالاتهم العقيمة، لاحظ كعبول أن البوابة الحديدية العملاقة لمبنى المدرسة الرئيسي والتي تفصله عن الفناء قد أغلقت للمرة الأولى منذ دخوله المدرسة، فنظر إلى بوابة الفناء الأخرى التي تؤدي إلى الشارع فوجدها أيضًا مغلقة، فلفت نظر أصدقاءه أنهم أصبحوا شبه سجناء بهذا الفناء، فساد الصمت والوجوم ونظر التلاميذ بعضهم لبعض دون أن يفهموا ما يحدث، وانفتح باب حديدي صغير يتوسط بوابة المبنى الدراسي وخرج منه المعلمون والإداريون جميعا يلبسون بزات سوداء مميزة، ومعهم سلات كبيرة، واصطفوا جميعًا أمام تلك البوابة، وأمسك مدير المدرسة بالميكروفون وشرع في الحديث.

السمكة والصياد

أبنائي الطلبة، طبعًا إنتوا سمعتوا من شوية جرس انتهاء فترة الفسحة وبداية الحصة الرابعة، وطبعًا كما هي عادتكم اتخلفتوا عن فصولكم وفضلتم في الحوش عشان تلعبوا، ولذلك الإدارة وهيئة التدريس قرروا يشاركوكم نفس الحالة، واختارناكم النهارده عشان نديكوا نص اليوم  الباقي ده حصة ألعاب، مش بس كده، إحنا كمان هنلعب معاكم.

تعالت صيحات الفرح ومعها تعالت أجساد التلاميذ في الهواء يتقافزون فرحًا وشغفًا، وفي الحال بدأ المعلمون ينقسمون لفريقين، فريق ظل في مكانه ومعه السلات والآخر اتجه إلى الجنب الآخر من الفناء حيث كان التلاميذ في الوسط ما بين الفريقين، ومن جديد تكلم مدير المدرسة:

أول لعبة هنلعبها معاكم هي السمكة والصياد، المدرسين هيحاولوا يصطادوكم بالكور الجميلة اللي معانا دي واللي الكورة هتيجي فيه هيخرج من اللعبة واللي هيقدر يكمل الوقت من غير ما الكور تلمسه هيكسب واللي يقدر يمسك كورة هيكسب مباشرة ويتأهل للعبة التانية، ومدة اللعبة دي 5 دقايق تبدأ من دلوقتي.

وانطلقت من المدير ضحكات عالية بدت للطلاب شريرة على الرغم من شغفهم بمشاركة معلميهم اللعب والمرح، لاحظ الطلبة أن جميع المعلمين قاموا بارتداء قفازات غريبة، وأخرجوا كرات صغيرة الحجم تشبه في الحجم كرات التنس، ولكن الاختلاف الأكبر أنها كانت تبدو لهم ككرات حديدية يخرج منها نتوءات مدببة طويلة، وقبل أن يتملك الفزع من التلاميذ من خطورة الكرات تلك، انطلقت الكرات كالقذائف من أيدي المعلمين في اتجاه التلاميذ وسقط أول تلميذ كان يقف أمام عادل صريعا مخضبا بالدماء بعد أن أصابت الكرة رأسه مباشرة.

كان المشهد حقا تشيب له الولدان، وبالفعل شاب الولدان وانطلقت صرخات الهلع والفزع منهم هذه المرة وأخذ التلاميذ يركضون بلا هدف فرارًا من قذائف المعلمين القاتلة، ومنهم من انهار في الأرض والآخر الذي حاول الاختباء بزميلة واستعماله كدرع، والآخر الذي حاول أن يمثل دور القتيل.

وسط ذهول الطلبة وفزعهم كان عادل يركض بلا هدف ويتعرقل في الكثير من المرات ويصطدم بزملائه، فقد ركض وسقط كما لم يفعل في حياته من قبل، إنه الهروب من الموت، مرت الدقائق كأنها سنوات، ولكنها مرت ورن الجرس هذه المرة معلنا انتهاء اللعبة وكان كعبول من الناجين.

كهربا

وفور توقف المعلمين عن إطلاق القذائف الحديدة المدببة على الطلبة وقف الطلبة في وسط الفناء منهارين من الألم والإرهاق والبكاء، ولكن المعلمين لم يتوقفوا، تحرك المعلمون نحو السلات التي كانت معهم من جديد وأخذوا منها أجهزة لم يتبينها التلاميذ وبدؤوا يتحلقون من حولهم، ومن جديد أمسك المدير بالميكروفون وقال:

أتمنى تكونوا مبسوطين ومستمتعين، ما تقلقوش لسه فيه ألعاب كتير إحنا لسه معانا اليوم كله، يالا اللعبة التانية كهربا، المدرسين هيجروا وراكم واللي هيقول «كهربا» ويقف هيبقا في أمان لحد ما تلميذ من اللي بيجروا يلمسه ويقول «شد الكوبس»، وطبعا اللي مدرس هيلمسه وهو بيجري هيخسر، وآخر تلميذ بيجري ما ينفعش يقول كهربا إلا لما يشد الكوبس لتلميذ تاني يالا اللعبة دي كمان مدتها 5 دقايق.

وانطلق المدرسون وراء التلاميذ ومنهم من سارع كعادل بالصياح «كهربا» وثبت في مكانه ليتجنب الخسارة ومنهم من سارع بالركض ومن ورائه المعلمين، واتضح للتلاميذ أن المعلمين يحملون في أيديهم أسلحة الصعق الكهربائي ومن يلمسه الصاعق يردى أرضًا، وكانت القاعدة هنا أنه كلما سقط آخر لاعب يجري تنزع عن جميع اللاعبين الحصانة ويتوجب عليهم الركض، كان عادل يجيد هذه اللعبة جيدًا وليس بالركض أو المراوغة لكن بالغش والحيلة، فدائما ما كان يقول «كهربا» سريعا ويقف إلى جوار أي من زملائه ولو حرره أحد الراكضين سرعان ما يلمس زميله المجاور يحرره ويتحصن هو بقول «كهربا».

رن الجرس. نجحت حيلته واستطاع أن ينجو وهو واقف يشاهد زملاءه يتساقطون صعقًا واحدا تلو الآخر حتى كان الباقي منهم مع نهاية الخمس دقائق لا يتعدى العشرة تلاميذ ومنهم المحظوظ كعبول.

اثبت صنم

ارتمى الناجون أرضًا وهم يشاهدون عمال النظافة يخرجون الضحايا من الفناء، وعلامات الرعب والذهول والفزع لا تغادر وجوههم، ومن جديد تحدث المدير:

برافوا، إنتوا من الصفوة، ولازم تكملوا معانا اليوم الجميل ده، من غير كلام كتير اثبت صنم، 5 دقايق.

وانطلق المعلمون من جديد نحو السلات وأخرجوا منها مطارق ذات رؤوس حديدة أو «شواكيش»، وأمسك كل منهم باثنين، شاكوش بكل يد، واصطفوا متلاحمين في دائرة ضيقة حول التلاميذ ووقفوا في وضع الصنم الشهير، حيث يقف اللاعبون «الذين يلعبون دور الصنم» في دائرة وأيديهم ثابتة في الأعلى وفي الوسط الضحايا، من يغفل عن أحد الأصنام يقوم الصنم بضربه دون أن تراه الضحية، وإن رأت الضحية الصنم يتحرك يقول اثبت صنم ويخسر الصنم، ولا مخرج ولا منجى للضحايا من الضرب إلا بانتهاء الوقت.

احتمى التلاميذ بعضهم ببعض ومن حولهم حلقة المعلمين ترفع أيديها لأعلى وبها الشواكيش وسرعان ما انهالت الضربات المميتة على رؤوس من يغفل من التلاميذ.

انتاب عادل الفزع وأخذ يتلفت يمينا ويسارا وأصدقاؤه يتساقطون واحدًا تلو الآخر وهو لا يدري من أين ستأتي تلك الضربة التي ستقضي عليه، استعاد أمام عينيه شريط حياته الذي على الرغم من قصره إلا أنه كان مليئا بالإهمال والكسل والفشل والغباء ولم تتخلله لحظة نجاح واحدة، فتمنى لو عاد ولو للحظة ليهتم بدروسه ويعود لحصته فورا بعد انتهاء الفسحة بلا كلل.

ولكن الضربة كانت أسرع من التمني فأتته ضربة على خلف رأسها ظن فيها مماته وكان يصرخ: حرمت حرمت، فسقط أرضًا مغمضًا عينيه وأتته ضربة أخرى أشد من الأولى ومعها صوت يميزه جيدًا، إنه صوت الأستاذ ربيع مدرس الدراسات الاجتماعية، يضربه على رأسه من الخلف قبل نهاية الحصة لعله ينتبه للدرس قبل جرس الفسحة، فانتبه كعبول من غفوته وسرعان ما تحسس جيبه في فزع فوجد الربع جنيه على حاله في انتظار الفسحة المجيدة.

إخلاء مسؤولية: المحتوى في قسم الآراء والمساهمات لا يعبر عن وجهة نظر الموقع وإنما يمثل وجهة نظر صاحبه فقط، ولا يتحمل الموقع أي مسؤولية تجاه نشره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى