ثقافة ومعرفة

حرب الفوكلاند.. وكيف لعبت «تاتشر» على وتر القومية لكسب المعركة؟

لعشر أسابيع، استمرّت حرب الفوكلاند في تصدّر عناوين الصحافة العالمية عام 1982، حين نشب صراع عسكري ما بين المملكة المتحدة ‑التي كانت تعاني ركودًا اقتصاديًا بالداخل- والأرجنتين، حول أحقية كلا الدولتين في الظفر بمجموعة الجزر الواقعة على بعد مئات الأميال شرقي أمريكا الجنوبية.

ما هي جزر الفوكلاند؟

جزر الفوكلاند هي أرخبيل بحري في جنوب المحيط الأطلسي، يقع على بعد 8000 ميل من الجزر البريطانية، التي كانت ذات يوم واحدة من أكثر أقاليم المملكة المتحدة غموضًا فيما وراء البحار، حيث كانت موطنًا لمجتمع يضم 1800 شخص فقط، معظمهم من أصل بريطاني.

كان جميع هؤلاء الأفراد تقريبًا من مزارعي الأغنام الريفيين الذين عملوا كمستأجرين على أرض مملوكة لشركة محلية، وكان سكان الجزر يعتمدون على مبدأ الشراكة في كل شيء، طمعًا في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي.

قبل العام 1982، لم تكُن جزر الفوكلاند معروفة، طبقًا للصحفي الأمريكي «دومينيك ساندبروك»، والذي سرد في مقال نشره موقع «His­to­ry Extra»، شهادات لعديد الجنود البريطانيين الذين انتشروا في المنطقة، والتي تؤكد أنّهم ظنّوا أن القيادات آنذاك كانت في طريقها لإنزالهم في جزر مقابلة لساحل اسكتلندا، وليس في منتصف المحيط الأطلنطي.

«اقرأ أيضًا: رعاة البقر.. ومن هم الفاكيروس الذين تجاهلهم التاريخ؟

علاقة جزر الفوكلاند وبريطانيا

حرب الفوكلاند
استقلال الأرجنتين (1820 ميلاديًا).

تعود قصة حرب الفوكلاند ما بين الأرجنتين وبريطانيا إلى عام 1690 ميلاديًا، عندما قام الكابتن البحري «جون سترونج» بأول هبوط مسجل على الجزر غير المأهولة، وقتئذ، أنشأ البريطانيون مستوطنة في الأرخبيل في منتصف القرن الثامن عشر، لكنهم تخلوا عنها بعد حوالي عقد من الزمان، تاركين المنطقة تحت السيطرة الإسبانية.

لكن اللحظة الفاصلة أتت حينما حصلت الأرجنتين على استقلالها من الحكم الإسباني عام 1820 ميلاديًا، لتطالب الدولة المستقلة حديثًا بحقها في الاستحواذ على مجموعة الجزر الواقعة تحت الحكم البريطاني، بحجة أنها ‑كدولة- ورثت الجزر من التاج الإسباني الذي حكمها مؤخرًا.

لاس مالفيناس أم فوكلاند؟

بحلول العام 1833، عادت القوات البريطانية مجددًا للجزر، وأعادت مطالباتها بحقها في السيادة عليها، وقامت بطرد كل المسؤولين الأرجنتينيين منها، مدعومة بمباركة أمريكية، لتُنشئ بريطانيا مستعمرة بالجزر، مطلقةً عليها اسم «فوكلاند»، في حين ظلّت الأرجنتين تؤكد سيادتها على هذه المنطقة المسماة «لاس مالفيناس».

بشكل ساخر، وطبقًا للمؤرخ والباحث «لورنس فريدمان»، حاولت الحكومة البريطانية بالفعل إقناع سكان الجزر بالانضمام إلى الأرجنتين في العقود التي سبقت الحرب، لأنها لم تكن ترى أهمية لتلك الجزر، وكانت مترددة في الاستثمار في جعل جزر فوكلاند مزدهرة وآمنة.

لكن بالعام 1969، وبمجرد إبرام اتفاقية لحل النازع القائم على الجزر، بات من حق سكان الجزر قول الكلمة النهائية بشأن سيادة وطنهم، والذي نتج عنه بقاء جزر فوكلاند تحت السيادة البريطانية، وانتهاء الاعتراف بالسيادة الأرجنتينية نهائيًا.

«اقرأ أيضًا: معركة حطين.. وكيف أجبر المسلمون عدوهم على القتال هربا من الموت

اشتعال فتيل حرب الفوكلاند

حرب الفوكلاند

بعد سنوات من التوترات القائمة بين الدولتين، وصل الأمر لذروته في يوم الـ19 من مارس عام 1982، حين قام عمال خردة المعادن الأرجنتينيون برفع علم بلادهم في محطة مهجورة لصيد الحيتان في جزيرة جورجيا الجنوبية، ثم إحدى جزر فوكلاند التابعة للسيادة البريطانية وقتئذ.

وبعد أسبوعين، وتحديدًا في الـ2 من أبريل من نفس العام، تحركت القوات الأرجنتينية في «ميناء ليث» في جنوب جورجيا، واجتاحت المواقع البريطانية الرئيسية، لكن دون إلحاق أي إصابات تذكر بالقوات البريطانية، ليبدأ بذلك الفصل المعروف تاريخيًا باسم «حرب الفوكلاند».

مارجرت تاتشر وحيلة ذكية

حرب الفوكلاند
مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا.

ردًا على ذلك، قررت مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانية، أن تنتهز الفرصة لتحسين صورتها السياسية السيئة آنذاك، لتعرب في مقابلة مصوّرة يوم 5 أبريل عن التزامها بالدفاع عن جزر الفوكلاند، مؤكدةً أن مواطني هذه الجزيرة هم مواطنون بريطانيون، يدينون للتاج الملكي البريطاني، ولا بد من حمايتهم من أي تدخُّل عسكري خارجي.

على الجهة الأخرى، لم تكن القيادة الأرجنتينية، متمثلة في الجنرال «ليوبولدو بوليتيري» تتوقع أن تقوم بريطانيا بهجوم عسكري، وبشكل أكثر سخرية، لم يكن التحرُّك صوب فوكلاند ‑من الجانب الأرجنتيني بدافع حماية السيادة، بل كان لدغدغة مشاعر القومية في بيونيس آيريس، لإلهاء الشعب عن السياسات الأرجنتينية التي قادت البلاد إلى اقتصاد منهار، وقمع مستشرٍ.

بالعودة إلى ساحة القتال، أمرت تاتشر بإرسال قوات بحرية بريطانية للرد على اقتحام الجزر، التي وصلت بالفعل إلى المنطقة في أواخر شهر أبريل، وانخرطت في سلسلة من المعارك البحرية والجوية مع الجانب الأرجنتيني ‑قوات الخونتا- ونجحت في إنهاك القوات الجوية الأرجنتينية المتفوقة، على الرغم من تنبؤات البحرية الأمريكية بأن استعادة السيطرة على الجزر ستكون استحالة عسكرية.

جريمة حرب

طبقًا لعدة روايات، كانت اللحظة الفاصلة في نجاح بريطانيا في فرض سيطرتها مجددًا خلال حرب الفوكلاند هي نجاح الغواصة «كونكرر»، التابعة للبحرية الملكية البريطانية في إغراق السفينة الأرجنتينية «بلغرانو»، لكونها أكثر السفن تورطًا في العمليات ضد القوات البريطانية. وبمجرّد إغراقها، خسرت الأرجنتين نقطة قوة رئيسية لها، بالإضافة لخسارة نحو 325 من أفراد طاقمها، لتصبح أكثر الأحداث إهدارًا للأرواح بالحرب.

واتهم النقاد في ذلك الوقت تاتشر بأنها أمرت بالهجوم على أنه عمل استفزازي متعمد يهدف إلى تصعيد الصراع وإفشال الآمال في التوصل إلى حل دبلوماسي، حسب ما نشرته صحيفة «تلغراف» البريطانية، لكن لا يزال الرأي العام منقسمًا، حيث يصفه المؤيدون بأنه عمل حربي مشروع ويدينه منتقدوه باعتباره جريمة حرب.

لكن في العام 1994، صدر تقرير عن وزارة الدفاع الأرجنتينية يبرئ ساحة تاتشر من القيام بجريمة حرب، فطبقًا لشهادة أحد ضباط المدفعية على السفينة «بلغرانو»، كان إغراق السفينة عملًا حربيًا قانونيًا، وليس جريمة حرب.

انتهاء حرب الفوكلاند

حرب الفوكلاند
رفع العلم البريطاني على جزر الفوكلاند.

في 21 مايو، قام الكوماندوز البريطاني بهبوط «برمائي» على الجزر؛ بعد أسابيع قليلة من القتال العنيف وسقوط المزيد من الضحايا، استسلم الأرجنتينيون، وبذلك انتهت المواجهة التي استمرت 74 يومًا في 14 يونيو، وانتهت حرب الفوكلاند معه، التي كانت حصيلتها عبارة عن قتل 649 عسكريًا أرجنتينيًا و255 جنديًا بريطانيًا و3 من سكان جزر فوكلاند.

طبقًا لمن عاصروا حرب الفوكلاند، فانتصار المملكة المتحدة في هذه الحرب لم يغيّر الكثير من الوضع السياسي والاقتصادي السيئ لبريطانيا، لكنه قدم فقط جرعة مضاعفة من الحنين لماضي «بريطانيا المنتصرة»، وربما أدركت القيادات ضرورة تحقيق انتصار كهذا، تجنبًا لامتعاض شعبي، عبر خلق أسطورة جديدة لشغل الرأي العام.

وهذا ما يمكن استنتاجه من النتائج المترتبة على هزيمة الأرجنتين بحرب الفوكلاند، حيث انهيار النظام القمعي البيروني، وبداية حقبة جديدة من الديمقراطية في الأرجنتين، بدءًا من العام 1983.

المصدر
مصدر مصدر 1مصدر 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى