رياضة

رقصة ميلا.. وكيف أصبح الاحتفال بالهدف فنا ورسالة؟

في كرة القدم، تسجيل الهدف هو أحد أكثر الأحداث نُدرة، لذا، حرص اللاعبون عبر التاريخ على استغلال هذا الحدث بأفضل شكلٍ ممكنٍ، أو هكذا نعتقد.

لماذا نحنُ هنا؟

على مدار تاريخ اللعبة الذي تخطى قرنًا من الزمان، دأب لاعبو الكرة على الاحتفال بالأهداف بشتى الطرق، منها ما هو عادي وفطري، ومنها ما تخطى حدود المعقول، ومنها أيضًا المخطط له مسبقًا، سواءً لفكرة أسرّها اللاعب بداخله، أو لمجرّد الاحتفال. حتى أصبحت احتفالات المحترفين كبصمات أصابعهم، التي يُمكن الاستدلال عليهم من خلالها.

حسب سيمون بارنتون، صحفي جارديان السابق، احتفال لاعبي كرة القدم بالهدف تحوّل خلال فترة قصيرة من لا شيء إلى فنٍ، وفي تفسيره لهذه الظاهرة، يخبرنا بارنتون أن سلطات الفيفا ازدرت الذروات العاطفية المتمثلة في الاحتفالات بتسجيل الأهداف، باعتبار احتضان اللاعبين وتقبيلهم بعضهم البعض أمرا يضر بسمعة اللعبة ذكورية الأصل.

بالطبع لم تفلح مثل تلك التهديدات، لأن التحكُّم في انفعالات اللاعبين أمر مستحيل، لذا تراجعت الفيفا عن توصياتها بضرورة منع احتفال اللاعبين بتسجيلهم للأهداف، وفي 1996، عدل الاتحاد الدولي لكرة القدم توصياته لتصبح «الاحتفال في حدود المعقول».

يعتقد أن احتفالات كرة القدم «الراقصة» بدأت مع كأس العالم 90 في إيطاليا، حين قدّم روجيه ميلا لوحة فنيّة راقصة، وقتئذٍ، لم يكن لاعبو الكرة اعتادوا رؤية مثل هذا الاحتفال، الذي عبّر بشكلٍ أو آخر عن فرحة الكاميروني بتسجيله لهدف غالٍ، لكن الأهم؛ كان مرور هذه الحادثة مرور الكرام، ما تبعه بداهةً محاكاة آلاف المحترفين لتجربة ميلا الشيقة التي التقطتها عدسات الكاميرات.

 كان الأمر لحظيًا، لم أخطط لهذا الاحتفال، لأنني لم أكن أتوقع أن يشركني المدير الفني، ولم أكن متأكدًا من قدرتي على تسجيل هدفٍ.

-أسطورة الكاميرون روجيه ميلا، عن احتفاله الراقص بهدفه في مرمى رومانيا بكأس العالم 90.

ومع ذلك، تم الاتفاق ضمنيًا، على أن يقتصر الاحتفال بالهدف على هذه الحركات، سواءً بشكلٍ فردي أو مع الفريق، بشرط تجنُّب أي إيماءاتٍ استفزازية، تحريضية، أو ساخرة، وإلا يتم معاقبة اللاعب فورًا ببطاقة صفراء.

اقرأ أيضًا: الليمبو.. رقصة قديمة متعددة الفوائد

أنا هنا.. نحن هنا

كرة القدم
ستيفن جيرارد، نجم ليفربول الإنجليزي.

عند تسجيل الهدف، يصبح المُسجل محط أنظار الأعلام والجماهير، وهنا ربما يبدأ كُل شيء، حيث ينتظر الجميع ‑خلال ثوانٍ معدودة- الرسالة التي يريد اللاعب أن تصل للعالم، ومع مرور الوقت، أصبحت تلك الثواني تستغل بحكمة بالغة.

وعلى الرغم من عفوية الاحتفالات عادةً، حيث يحكُم السياق كل شيء، يخبرنا علم النفس أن هنالك أنماطًا محددة لمسجلي الأهداف عند الاحتفال.

أحد السلوكيات الأكثر شيوعًا هي إظهار الولاء للمجموعة، والتي تظهر عبر احتضان الزملاء، الركض نحو الجمهور، أو تقبيل الشعار.

في أحيان أخرى، تهدف الاحتفالات إلى تعزيز الدوافع الشخصية والاجتماعية، مثل: إظهار اللاعب بنيته العضلية، أو الكشف عن قميص داخلي يحتوي على رسالة، أو استغلال وقت الشاشة في الاحتجاج الاجتماعي.

في دراسة نشرت بواسطة المكتبة العامة للعلوم «PLOS»، والتي شرّحت ما يتخطى 300 احتفال بتسجيل الأهداف ببطولة دوري أبطال أوروبا موسم 2018/2019، تختلف أنماط الاحتفال بالهدف لدى لاعبي كرة القدم طبقًا لشخصياتهم.

حسب العينة، تركّز أغلبية اللاعبين على نفسها، إما بالإشارة لكونهم من أنقذوا الفريق، أو بالإشارة إلى كونهم جزءًا من المجموعة، أو الكيان الاعتباري المتمثل في النادي، وفي نفس الدراسة، أوضح الفريق البحثي أن اللاعبين من نفس القارة، والذين يمتلكون مرجعيات ثقافية متشابهة، كانوا أكثر تفرّدًا وانسجامًا مع بعضهم البعض أثناء الاحتفال بتسجيل هدفٍ.

هنا، تجدُر الإشارة إلى لعب الخلفيات الخاصة بكل لاعب دورًا في التأثير على احتفاله، سواءً كان عفويًا أو مُعدا بشكلٍ مسبق، ببساطة؛ لأن لاعب كرة القدم إنسان، يتأثر بشكل أو آخر بتاريخ نشأته، والعادات والتقاليد التي شبّ عليها.

اقرأ أيضًا: نصائح تساعدك على الاحتفال بإنجازاتك الصغيرة

الاحتفال فن واللاعب فنان

كرة القدم
احتفال الويلزي جاريث بيل.

كما ذكرنا، لم يعد الاحتفال بتسجيل الهدف مقتصرًا على مصافحة صارمة بين زميلين، يتبعها ركضة سريعة نحو دائرة المنتصف، وبعد أن أجبنا على السؤال حول تاريخ هذا التحوُّل، ينبغي دون شكٍ التطرق للسؤال عن السبب في هذا التحوّل.

أدى التركيز الإعلامي المتزايد على مباريات كرة القدم منذ بداية التسعينيات والشهرة المحيطة باللاعبين وتسويق اللعبة إلى إحداث تغيير في طريقة الاحتفال بالأهداف أيضًا، بالتالي، أصبح التسجيل فرصة مثالية للترويج لعلامة اللاعب التجارية الخاصة، باعتباره شخصية عامة تقدّم عرضًا للجماهير في الملعب وخلف الشاشات بكل بقاع العالم.

وبما أنّ كرة القدم الحديثة تتمحور حول محاولة جميع عناصرها المزيد من الأموال، تحولت بعض الاحتفالات في حد ذاتها لسلع، فمثلًا؛ قامت شركة «كوكا كولا» بتسويق رقصة روجيه ميلا مع العلم في كأس العالم 90، بينما قام الدولي الإنجليزي السابق دانييل ستوريدج بتأدية رقصته الشهيرة في إعلان مدفوع لموسيقى «صبواي».

 القصة بسيطة، كنت أتسكع مع الأصدقاء، وعند سماعي للموسيقى، بدأت في الرقص بهذه الطريقة، أعجب الجميع بالرقصة، واتفقنا على أن أقوم بتأديتها فور تسجيلي هدفي المقبل.

-الدولي الإنجليزي دانييل ستوريدج، عن سر احتفاله بأهدافه المعروف بـ«Sturridge Dance».

هذا ليس كل شيء، في عام 2013، قدم جاريث بيل، نجم توتنهام وقتئذ، طلبًا إلى مكتب الملكية الفكرية (IPO) لوضع علامة تجارية على شعار ينسخ إيماءة الاحتفال بالهدف التي يقوم بها، وطبقًا لنايجل كوري، مدير العلاقات التجارية بإحدى وكالات التسويق، نجاح بيل في تسجيل ملكيته الفكرية يمكن أن يدر ربحًا على حساب اللاعب، يتخطى الـ3 ملايين يورو.

المفارقة هنا هي أن شهرة لاعب كرة القدم أو مستواه قد لا يؤثر على استغلاله كعلامة تجارية، ولعل أبرز مثال على هذه الظاهرة البرازيلي «جابرييل باربوسا» الشهير بـ«جابي جول».

وفقًا لجونيور بيدروسو ‑الرجل الذي يدير أعمال لاعب الإنتر السابق- دخلت علامة جابي جول التجارية في شراكة مع «Ken­ner» لألعاب الأطفال، لتوفير أكثر من 70 منتجًا يحمل صورة احتفال اللاعب وتقديمها للأطفال بمدارس البرازيل.

اقرأ أيضًا: بوجبا وآخرون.. ولماذا يلجأ نجوم الكرة لتغيير قصات شعرهم؟

منبر إنساني

ولأن الحياة لا تدور فقط حول الأموال، في بعض الأحيان، تستغل لحظات الفرحة العارمة بتسجيل الهدف لأغراض إنسانية بحتة، ربما تترسّخ هذه اللحظات بشكلٍ أعمق في ذاكرة المتابعين.

بكأس أمم إفريقيا 2008، احتفل النجم المصري محمد أبوتريكة بأحد أهدافه رافعًا قميصه، الذي كتب أسفله، «تعاطفًا مع غزّة». وطبقًا لما نشرته النسخة الإنجليزية من موقع العربية، أثار هذا الاحتفال حفيظة الكيان المُحتل، بل إن مسؤوليه ضغطوا كي تُحذف صورة الاحتفال الخاص من محرك البحث «جوجل»، إضافةٍ لمطالبات وصلت للحث على إيقاف اللاعب، لاعتباره قام بإقحام السياسة بميدان كرة القدم.

 «طلبت من الضابط الغاني المرافق للبعثة المصرية طباعة الجملة على قميصي، كدت أختنق لأنه الجملة طُبعت بالـ«جاز». حقيقةً، فكرت في الأمر طويلًا، تأثرت بالأنباء القادمة من غزة واتخذت قراري».

«اعتقدت أن حسن شحاتة سيوبخني، لكنني فوجئت أنه عاتبني لأنني لم أخبره، كي نطبع الجملة على أقمصة اللاعبين كافة».

محمد أبوتريكة، وثائقي BBC.

وبغض النظر عن سذاجة هذا الطرح، الذي لطالما ثبُت كونه هراءً، حيث لا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال فصل السياسة عن الرياضة، أو العكس، يظل الأهم بهذا الخصوص قدرة لاعب كرة القدم أحيانًا على استغلال شهرته لثوانٍ معدودة، من أجل تحويل أنظار العالم نحو وجهة بعينها، أو حدث بعينه.

في الواقع، قد لا يُغير احتفال ‑لا تتعدى مدته بضع ثوانٍ- العالم الذي نعيشه، وربما هذا آخر ما قد يشغل بال الجميع، لكن الأكيد أن كرة القدم ‑مختزلة في مثل تلك الاحتفالات- يمكنها أن تخبرنا الكثير عن العالم الذي نعيشه.. عالم مشتت بين البحث عن سرقة لحظات الفرحة، جني الأموال، إبداء التعاطف، والبحث عن الذات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى