ثقافة ومعرفة

وفاء الكلاب.. وكيف تثبت «البصمة الأولى» ولاء الحيوانات للبشر؟

في مارس 1935، فارق الكلب الياباني «هاتشيكو‏» الحياة، بعد أن ضرب مثالا لـ«وفاء الكلاب»، حينما انتظر صاحبه البروفيسور «هيديسابورو أوينو» المتوفى 9 سنوات كاملة داخل محطة القطار بطوكيو، أملًا في عودته من العمل كالمعتاد.

تعد قصة هاتشيكو إحدى القصص الملهمة، التي توضّح تعلّق الكلاب بالبشر، والتي دفعت الحكومة اليابانية لتخليد قصة هذا الكلب بحفظ جثته داخل المتحف الوطني، إضافة لتشييد تمثال للكلب، من سلالة «أكيتا» بجوار قبر صاحبه في طوكيو.

لكن السؤال المهم؛ هل تعد قصة الكلب الياباني استثناءً، أم أنّ هنالك دليلا علميا ما، يشرح لنا طبيعة العلاقة ما بين البشر والكلاب؟

أصل النوع

وفاء الكلاب
تمثال الكلب هاتشيكو.

قبل أن نشرح السبب فيما قد يوصف بوفاء الكلاب، علينا أولًا أن نتتبع أصول هذا النوع من الحيوانات، حيث كان يعتقد في البداية أن الكلاب قد انحدرت من الذئاب، ووفقًا لبعض الدراسات القديمة، تُظهر معلوماتها الوراثية تشابهًا بين جيناتها، ولذلك افترض البعض أنه بسبب التطور ظهرت الكلاب التي نعرفها حاليًا كأنواع جديدة ومنفصلة.

لوهلة، نلحظ تشابها بين الكلاب والذئاب، ولكن هذه ليست الحقيقة كاملةً، فعلى الرغم من امتلاك الكلاب عادات مماثلة للذئاب من حيث الصيد في مجموعات، ووجود ذكر مهيمن (ألفا) في معظم المجموعات، في الوقت الحاضر، تختلف الكلاب المستأنسة أو الأليفة تمامًا، وهذا ما يجعلنا نتطرق لنقطة جديدة.

اقرأ أيضًا: صيد الحمام.. وكيف تحول من رياضة أولمبية إلى ممارسة لا أخلاقية؟

التشابه مع الذئاب

وفقًا لمقال نُشر في مجلة «Nature» في عام 2010، تمت دراسة أكثر من 48000 تعدد أشكال النيوكليوتيدات المفردة (SNPs) في الكلاب وأسلافها البرية لفهم تطور النمط الظاهري والأصل تحت التدجين بشكل أفضل. واستنتج العلماء من هذه الدراسة أن الكلاب تشترك في سلف مشترك مع الذئاب الرمادية في الشرق الأوسط.

لكن طبقًا لدراسات أحدث، انفصلت الكلاب والذئاب جينيًا عن سلفها المشترك قبل 40 ألف سنة مضت حسب بعض التقديرات، بالتالي، لا تشترك الكلاب المنزلية في النسب المباشر مع أي من الذئاب الحية الحديثة.

وكان آخر سلف مشترك للكلب والذئب هو فصيلة الذئاب التي عاشت في العصر الجليدي، وهو ما تم اكتشافه بواسطة علماء الأدلة الوراثية من عظم ضلع الذئب القديم، الذي اكتشف في شبه جزيرة «Taimyr» في سيبيريا.

الكلاب المستأنسة

أول خطوات فهم وفاء الكلاب هي دراسة تاريخ استئناسها، وبهذا الصدد، لا يمكن تحديد التاريخ الذي بدأ البشر بتدجين الكلاب عنده، حيث يذكر البعض أن عملية التدجين تلك قد بدأت قبل 20 ألف عام أو أكثر، لكن تشير أقل التقديرات إلى أن استئناس الكلاب بدأ قبل 10 آلاف عام.

نظرًا لهذا الاختلاط الذي استمر لوقت طويل جدًا، يعتقد بعض المتخصصين أن تغيرًا ما طرأ على نفسية الكلاب وسلوكياتهم، بل إنها تحولت بشكل أو آخر كصديقة للبشر، وسهل هذا الترابط مسألة التعايش بين الطرفين.

اقرأ أيضًا: نشاطات ترفيهية للبشر تكرهها الحيوانات

طبيعة جينية

يكمن وفاء الكلاب في جيناتهم، أو هكذا يعتقد بعض العلماء، وربما يبدو هذا الطرح منطقيًا، لأن الكلاب (قبل الاستئناس) كانت وفية لمجموعاتها، ويعتقد أن هذا الالتزام والولاء والمجموعة تطوّر ليصبح ولاءً للبشر.

بعد دراسة ما يعرف بـ«تعدد أشكال النوكليوتيدات الفردي»، المرتبط بجين «مستقبل الأوكسيتوسين»، المعروف بتأثيره على الترابط الزوجي البشري، اتضح أنه مرتبط بالبحث عن القرب والود في سلالتين من سلالات الكلاب.

لدراسة مدى تعلق الكلاب بالبشر، قام فريق بحثي بإجراء تجربة مثيرة، كانت عبارة عن وضع أحجية أمام مجموعة من الكلاب ومجموعة أخرى من الذئاب، وعند حلّها يكون من حق الكلب أو الذئب الفوز بقطعة من النقانق.

أثناء التجربة، لوحظ تحديق الكلاب في البشر أكثر من نظرها لصندوق الأحجية، كما كانت الذئاب أكثر قدرة على حل الأحجية ‑في ظل وجود البشر- من الكلاب.

من هنا يمكن أيضًا أن نستنتج أن الكلاب الأليفة تعتمد على البشر أكثر من نظيراتها البرية، وأن الذئاب في نهاية المطاف أكثر استقلالية عندما يتعلق الأمر بحل المشكلات حتى وإن كانت أقل اجتماعية.

وفاء الكلاب لأصحابها

وفاء الكلاب

كل ما سبق، يمنحنا مؤشرات عن حقيقة وفاء الكلاب للبشر، لكن الأكيد أنّ العلم لا يزال لديه بعض الحقائق الأخرى، والتي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك صحة هذه الفرضية.

عندما تتفاعل الكلاب مع مالكها، تفرز أجسادها الهرمون المعروف بـ«الأوكسيتوسين» أو هرمون الحب، تمامًا كما يفعل البشر عندما يتفاعلون مع شخص يحبونه، الأمر الذي يعمّق بدوره العلاقة بين الطرفين، حتى وإن كانت قائمةً بدايةً على مجرد تقديم الطعام لكلب يتضوّر جوعا.

لذلك، تجد الكلاب حتى سن الـ6 أشهر تظهر روابط عاطفية تجاه الشخص الذي يعتني بها، ويمتد هذه الروابط لسنوات، حتى إنها في بعض الأحيان تتخطى كونها حصرية على مالكها فحسب، بل لكل أبناء جنسه.

يعتقد أن السبب في ذلك يرجع لما يعرف بـ«البصمة الأولى»، حيث قد ثبت أن الحيوانات لديها عاطفة تجاه أي حيوان أو شخص تقابله بعد ولادتها مباشرة، وتبني هذه البصمة اتصالًا بين كليهما.

ومع ذلك، وفاء الكلاب يظل مرتبطًا بسلالاتها، بمعنى أن بعض السلالات أكثر ولاءً للبشر من غيرها، وفقًا لموقع «Hap­py Pup­py»، فسلالات: أكيتا، وبيجل، وبوكسر، وتشيهواهوا، وكولي، ودوبيرمان بينشر، وجيرمان شيبرد، وجولدن ريتريفر، وجريت بيرينيه، ولابرادور ريتريفر، ويوركشاير تيرير هي السلالات الأكثر وفاءًا بين كل سلالات الكلاب.

نهايةً يعد وفاء الكلاب مجرد سلوك ضمن سلوكيات طوّرها هذا النوع عبر سنوات طويلة، لعبت البيئة المحيطة والتجارب الموروثة دورًا كبيرًا في تشكيلها، بالتالي، يمكننا القول إن هاتشيكو ربما كان استثناءً، لكنه لا يبتعد كثيرًا عن القاعدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى