ثقافة ومعرفة

«الأورطة المصرية السودانية».. عندما أنقذ العرب فرنسا في حرب المكسيك

تضم سجلات قصر عابدين رسالة إشادة من الخديوي إسماعيل بقائد الأورطة المصرية السودانية في حرب المكسيك، والتي يعبر من خلالها عن تقديره وثنائه على شجاعة جنود هذه الكتيبة المصرية، وورد في نص الرسالة:

«ورد على مسامعنا ما قمتم به من ثبات وإقدام في الحرب، وما أبديتموه من شجاعة ومهارة، ما أوجب الالتفات إليكم من الدولة الفرنسية، وارتحنا غاية الارتياح لما ظهر منكم، فحافظتم على الشرف الذي حصلتم عليه من الحكومة المصرية.… «.

لكن لحظة، ما علاقة مصر بحرب استقلال المكسيك في أواخر القرن الـ19؟

لماذا نشبت حرب استقلال المكسيك؟

قبل التطرّق لدور الأورطة المصرية السودانية في حرب استقلال المكسيك، علينا أولا فهم أسباب تصاعد حدة هذه الحرب، التي شهدت تدخُّل قوات عسكرية تابعة لدولة تقع بالطرف الآخر من العالم.

بين عامي 1857 و1861، نشبت حرب أهلية في المكسيك، بين القوى الليبرالية ونظيرتها المحافظة، والتي انتهت بانتصار الفصيل الليبرالي، ومن ثَمّ تنصيب «بينيتو خواريز»، رئيسا منتخبا للمكسيك.

لكن تأزّم وضع الجمهورية المكسيكية، حيث خرجت البلاد من هذه الحرب على شفا إفلاس، وفشلت في تسديد الديون المستحقة لعدد من الدول الأوروبية، والتي اقترضتها الحكومة المحافظة أثناء فترة الحرب الأهلية. وهنا، قررت الحكومة الجديدة، بإيعاز من البرلمان المكسيكي تجميد تسديد الديون الأوروبية، وعدم الاعتراف بالديون التي أثقلت الحكومة المحافظة كاهل الدولة بها.

في نفس الوقت، لجأ معارضو «بينيتو خواريز»، الرئيس المنتخب، لاستجلاب قوى عسكرية خارجية، بغرض استرجاع الملكية، واستعادة هيبة الكنيسة المحافظة، وبالفعل، نجحوا في ذلك، بمساندة من «نابليون الثالث»، إمبراطور فرنسا، الذي شكّل تحالفا أوروبيا ضَمّ كلا من فرنسا، إسبانيا وبريطانيا، لاحتلال المكسيك، بحُجّة إجبار السلطة المكسيكية على دفع الديون الأوروبية المستحقة طبقا لـ«إعلان لندن».

وفي يونيو 1862، نجح التحالف الأوروبي بقيادة فرنسا في احتلال المكسيك، وإزاحة الجيش المكسيكي الموالي لـ«خواريز» إلى الأرياف.

الإمبراطور ماكسيميليان

الأورطة المصرية في حرب المكسيك
الإمبراطور ماكسيميليان.

بعد أن استتبت أمور التحالف الأوروبي في المكسيك، أصبحت مسألة تنصيب ملك موالٍ هي الشغل الشاغل لـ«نابليون الثالث»، الذي وجد ضالته في «ماكسيمليان»، حفيد قيصر النمسا «فرانز الأول»، والذي أقنعه بعض المنفيين المنتمين للطبقة المكسيكية المحافظة أن هذه الخطوة قد تساعده في استعادة هيبة «عائلة الهابسبورغ»، خاصةً بعد الهزيمة أمام فرنسا عام 1859.

قبل «ماكسيميليان» العرض، في حين أصدر معارضو «خواريز» من المحافظين قرارا يعلن عودة المكسيك إلى الملكية، وبعد استفتاء شعبي، استطاعت الجبهة المحافظة تأمين نتيجته إيجابيا لصالح «ماكسيميليان»، حصل على تاج المكسيك، وأصبح إمبراطورا رسميا لها.

وصل إمبراطور المكسيك إلى عاصمتها «فيراكروز» في يونيو عام 1864، وسط مناصريه من المحافظين، وبدت مهمته غايةً في الصعوبة، فمن جهةٍ كان عليه التصدّي لحرب الشوارع التي حاول معارضوه بقيادة «بينيتو خواريز» سحبه إليها، ومن جهة أخرى بسبب اتخاذه موقفا وسطيا بين المحافظين والليبراليين.

الأورطة المصرية السودانية في حرب المكسيك

الأورطة المصرية في حرب المكسيك
الأورطة المصرية في حرب المكسيك.

بعد 4 شهور كاملة من القتال بين مناصري الإمبراطور «ماكسيميليان»، المدعومين بقوات عسكرية فرنسية، إسبانية بريطانية، ومعارضيه الموالين لـ«بينيتو خواريز»، قررت القوات الإسبانية والبريطانية الانسحاب، لتترُك القوات الفرنسية في ميدان القتال وحدها.

مع مرور الوقت، أدركت القوات الفرنسية، وعلى رأسها القائد «جوريه دي لا جرافير»، أن الرجل الأبيض لن يقوى على القتال في ظل المناخ المكسيكي الحار، لذا قرر الاستعانة بقوات من السنغال والهند الغربية القابعة تحت الحكم الفرنسي.

إضافةً لذلك، اقترب «دي لا جرافير» من نائب الخديوي سعيد باشا، وطالبه باستعارة كتيبة من الجنود من صعيد مصر، للقتال تحت العلم الفرنسي في المكسيك.

رحلة الكتيبة المصرية إلى المكسيك

في الـ9 من يناير 1963، أبحرت السفينة الفرنسية «سين» من الإسكندرية، حاملةً على متنها الكتيبة المصرية، التي تألفت من 447 رجلًا، متجهةً إلى فرنسا من أجل الانضمام إلى بقية الكتائب التي استعارتها فرنسا من أجل الاشتراك في حربها بالمكسيك.

تكونت الأورطة المصرية السودانية في المكسيك من ضباط وجنود مصريين وسودانيين (كانت السودان وقتئذ تحت الحماية المصرية) أصحاب بشرة داكنة، كما تظهر الصور المتاحة لحظة مغادرتهم الإسكندرية.

بعد 44 يومًا، وصلت الكتيبة إلى فيراكروز، وبمجرد وصولها، تم وضع الجنود المصريين تحت قيادة القائد الفرنسي «مانجين» من فوج الزواف الثالث، ولتسهيل تسلسل القيادة، تم إحضار الجنود الجزائريين لمساعدتهم في تخطّي حاجز اللغة وفهم الأوامر.

شجاعة الكتيبة المصرية في المكسيك

على الرغم من مفارقة عدد من الجنود المصريين الحياة جرّاء إصابتهم بالأمراض خلال تواجدهم في فيراكروز، وجد القادة الفرنسيون في المقاتل المصري آنذاك، ما لم يجدوه في نظيره الأوروبي، وهو الشجاعة.

في الـ10 من يونيو 1864، نجحت القوات الفرنسية، بمساعدة 80 جنديا من الأورطة المصرية السودانية في المكسيك، من تحقيق انتصارٍ ضخم ضد قوات «بينيتو خواريز»، ووصف قائد الكتيبة الفرنسية المنتصرة الجنود المصريين بأنهم ليسوا مجرّد جنود، بل أسود لا تخشى الموت.

العودة إلى مصر

الأورطة المصرية في حرب المكسيك
الخديوي إسماعيل.

في نفس الفترة تقريبا، كانت الحرب الأهلية الأمريكية قد انتهت، وعادت أمريكا لتلعب دورا في الصراع المحتدم في المكسيك، والذي تلخّص في دعمها لـ«بينيتو خواريز»، تارة عبر الدعم المالي، وأخرى عبر رفض بعث الخديوي إسماعيل قوات مصرية إضافية لدعم الأورطة المصرية السودانية في حرب المكسيك، بحجّة أن هذا الدعم سيزيد من عدد الزنوج في أمريكا.

مقابل ذلك، بدأت الإمبراطورية الفرنسية في الشعور بالضيق المالي الناتج عن تكاليف الحرب في المكسيك، لذا تنامت رغبةً داخل عقل «نابليون الثالث» في التخلّي عن حليفه «الإمبراطور ماكسيميليان»، وتركه يلقى مصيره، الذي أُعدم بواسطة مناصري بينيتو خواريز في نهاية المطاف.

في عام 1867، غادرت الأورطة (الكتيبة) المصرية الأراضي المكسيكية، والتي تبقى منها نحو 326 رجلا على قيد الحياة، متجهين إلى الأراضي المصرية.

في 9 مايو تحديدا، قام الإمبراطور نابليون الثالث برفقة شاهين باشا القائد العام للجيش المصري بتحية الأورطة المصرية التي شاركت في حرب المكسيك، أثناء مرورها عبر باريس، حيث حصل 56 رجلًا على وسام الشرف، بينما تسلم القائد «محمد ألمظ» وسام الضابط من قبل الإمبراطور الفرنسي نفسه.

وانتهت قصة الكتيبة المصرية السودانية في حرب المكسيك بعودة الجنود إلى الإسكندرية يوم 23 مايو 1867، حيث استقبلهم الخديوي إسماعيل في قصر «رأس التين»، وقام بترقية الأفراد العائدين من الحرب.

شهادات في حق الكتيبة المصرية

تحدثّت عدة تقارير فرنسية عن شجاعة الأورطة المصرية في حرب المكسيك، وجاء في أول تقرير عنها ما يلي:

«أظهرت الكتيبة المصرية استعدادا عسكريا يثير إعجاب كل من يراه».

بينما كتب القائد الفرنسي لمنطقة فيراكروز عنها:

«أبلت الحملة بلاء حسنًا، ولم يبالوا بقوة النيران التي أُطلقت عليهم، وردوا المهاجمين الذين يفوقونهم عددًا بنسبة 9 إلى 1».

في حين نقل القائد العام للقوات الفرنسية بالمكسيك إعجابه كاتبا: ««لقد قاتلت الأورطة المصرية السودانية في المكسيك بشجاعة نادرة، لم أشاهد قتالًا نشب في هدوء وحماس كما شاهدتهم، فكانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم، وكانت جرأتهم تذهل الجميع».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى