ثقافة ومعرفة

كليوباترا السمراء.. أجندة نتفلكس والصوابية السياسية

أعلنت منصة نتفلكس عن إصدار مسلسل وثائقي يحكي قصة الملكة الفرعونية «كليوباترا» في مايو 2023. والمفاجأة كانت أن البطلة التي ستلعب دور ملكة مصر سمراء من أصول غرب إفريقية. وهنا تبدأ الإشكالية. 

الملكة كليوباترا

كليوباترا
تصور لشكل الملكة كليوباترا السابعة.

طبقًا للمنصة الرقمية، المسلسل الوثائقي، يأتي لاستكشاف حياة ملكات أفريقيات بارزات ومبدعات، حيث سيخصص الموسم الأول لكليوباترا، التي عدّتها أشهر وأقوى امرأة في العالم، مشيرة إلى أنها أسيء فهمها، على أنها شهرتها كجريئة،  ملكة جميلة ورومانسية طغت على معدنها. لكن  الشيء الأكثر أهمية  هو ذكائها.

في الواقع، انتقدت التعليقات المصاحبة للفيديو والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تجسيد ممثلة سمراء لدور الملكة من أصول يونانية ومقدونيا، معتبرة أن الفيلم يزيف الحقائق التاريخية الثابتة.

تشير المصادر التاريخية إلى أن الملكة كليوباترا السابعة، المعروفة باسم كليوباترا، هي آخر ملوك الأسرة المقدونية، وبينما ولدت كليوباترا في مصر، تعود أصول عائلتها إلى اليونان المقدونية وبطليموس الأول سوتر، أحد جنرالات الإسكندر الأكبر. 

حكم بطليموس مصر بعد وفاة الإسكندر عام 323 قبل الميلاد، وأطلق سلالة من الحكام الناطقين باليونانية استمرت لما يقرب من ثلاثة قرون. على الرغم من أنها ليست مصرية عرقيا، فقد اعتنقت كليوباترا العديد من العادات القديمة في بلادها وكانت أول عضو في سلالة البطالمة يتعلم اللغة المصرية.

مثل العديد من البيوت الملكية، غالبا ما يتزوج أعضاء الأسرة البطلمية داخل الأسرة للحفاظ على نقاء سلالتهم. عقد أكثر من عشرة من أسلاف كليوباترا قرانهم مع أبناء عمومتها أو أشقائها، ومن المحتمل أن يكون والداها أخا وأختا. وتماشيا مع هذه العادة، تزوجت كليوباترا في النهاية من إخوتها المراهقين، وكان كل منهما بمثابة زوجها الشرفي والوصي المشارك في أوقات مختلفة خلال فترة حكمها.

بالتالي، لا يوجد أي مبرر لاستخدام ممثلة سمراء للعب دور الملكة كليوباترا. 

هذا العمل يمثل هجوما على التاريخ وتشويها فنيا للمنطق والواقع، كليوباترا كانت من عائلة بطالمة ولها خصائص شكلية متوسطية، ولم تكن أفريقية على الإطلاق.

ماجدة خير الدين، الناقدة الفنية. 

 

يتزامن إطلاق هذا العمل المثير للجدل، مع صعود أصوات الحركة المركزية الإفريقية «أفرو سنتريزم»، التي تسعى إلى تسليط الضوء على هوية ومساهمات الثقافات الإفريقية في تاريخ العالم. 

وتنشط هذه في الولايات المتحدة وفي بعض الدول الأوروبية وبين الجماعات ذات الأصول الإفريقية. ومن بين النظريات التي يروج لها مؤيدوها أن أصل الحضارة المصرية إفريقي فقط. 

وبغض النظر عن الشد والجذب بين طرفي هذا النزاع، تمثِّل هذه المحاولة من نتفلكس تعدٍ على التاريخ الفرعوني الموثَّق والذي ينفي تمامًا احتمالية كون الملكة كليوباترا تحديدًا من أصول إفريقية. إذن، إذا ما حاولنا أن نُحسن الظن، لماذا قد تلجأ منصة نتفلكس لمثل هذه المحاولة الغريبة لتزييف التاريخ؟

أجندة؟ 

إحدى النظريات الوجيهة تدعّي أن وسائل الإعلام الغربية يتم دفعها للتلاعب بوعي المجتمعات العربية. ويكون هذا التلاعب عبر القوة الناعمة، لا عن طريق الإجبار، عبر التسلل لهذه المجتمعات في صورة أعمال فنية، أو وسائل التواصل وغيرها من أدوات السلم. 

على سبيل المثال، خفضّت منصة نتفلكس مقابل اشتراكاتها في عدة بلدان حول العالم، منها منطقة الشرق الأوسط بالطبع، بداية من يناير 2023. وحدث ذلك بالتزامن مع مطالبات عربية بوقف منح ترخيص المنصة العالمية للبث في المنطقة؛ بسبب اختراق بعض أعمالها قيم المجتمعات العربية. 

بالتالي، يبدو أن القائمين على منصة نتفلكس يدركون جيدًا أهمية هذا السوق، إما لأغراض سيئة، أو لأسباب تجارية بحتة. 

الصوابية السياسية 

كليوباترا
الصوابية السياسية.

آخر التفسيرات المنطقية التي قد تقودنا لسبب الحقيقي خلف إطلاق عمل يروج إلى أن الملكة كليوباترا سمراء هو مبدأ الصوابية السياسية الذي تنتهجه وسائل الإعلام العالمية منذ وقت ليس بقصير. 

الصوابية السياسية مصطلح يعود لأواخر القرن الـ19، وهو مكافئ للكياسة بشكل عام؛ بمعنى أنّ الصوابية السياسية مفهوم يستخدم لوصف اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع. 

ولأن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، تحوّلت الصوابية السياسية من حكمة لا بد وأن تتبع، إلي سلاح يساء استخدامه. 

يظهر ذلك جليًا في الأعمال التي تنتجها شبكة نتفلكس. على سبيل المثال، تدعم المنصة ضمنيًا حقوق مجتمعات الميم، والأقليات العرقية مثل الأفارقة، عبر جعلهم أبطالًا لأعمالها الفنية. في الواقع، لا ضير في ذلك، لكن الأزمة تبدأ حين يتم إقحام مثل تلك التوجهات في غير سياقها. 

هذا التوجه معروف بالتمييز الإيجابي، والتمييز الإيجابي، هو اعتماد مبدأ الأفضلية أو محاولة إنعاش ملائمة في التعامل مع الأقليات، وهي السياسات التي تأخذ بعوامل مثل العرق واللون والدين والجنس والتوجه الجنسي أو الأصل في الاعتبار لكي تميز مجموعات مهمشة في التوظيف أو التعليم أو الأعمال، بعلة السعي لإصلاح التمييز الذي مورس ضدهم في السابق.

هذا التوجه يضر أحيانًا؛ لأنه لا يعبّر عن الواقع، ولا يهدف إلى إعلاء قيم مثل المساواة والتعايش على الإطلاق؛ لأنه على سبيل المثال لا يوجد أي مبرر لتصوير بطل فيلم كرتوني على أنّه مثلي الجنس، كما لا يوجد سبب حقيقي لإسناد دور بطولة مسلسل وثائقي يقص تفاصيل حكاية ملكة يونانية لسيدة سمراء. 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى