آراء ومساهمات

الفنان حسام داغر يكتب: صغيري «فيتو»

كتب: الفنان حسام داغر

في نهاية يوم تصوير، والكل يلملم أشياءه، كنت متأخرا لإزالة مكياج كثيف كنت أضعه للشخصية، وخرجت من غرفتي بعد ساعة من «الفركش» لأجد نفسي وحدي في «البلاتوه»، فاتجهت إلى عربتي وعندها سمعت صوته، ضعيفا واهنا يأتي من مكان ما في الديكور.

ذهبت بحثا عن مصدر الصوت حتى وجدته داخل صندوقه، نظر لي بعينين متسعتين، كان وجهه ليس إلا عينين فقط وعرفته، إنه القط الذي أحضره فريق الإنتاج ليصور معي وقاموا بصبغه باللون البنفسجي ليتناسب مع شعري المستعار الذي ارتديته يومها للشخصية، أخرجته من الصندوق ونظرت حولي فلم أجد شخصا أسأله ما مصير هذا الحيوان الأليف المنهك الذي تم صبغ شعره بلون ملفت، ما مصيره لو اتجه للشارع؟ لم يعطه أحد أي طعام طيلة اليوم، وهذا ظاهر من صوته وجوعه، عندها أخذت القرار وتوجهت به للسيارة ووضعته بجانبي وذهبنا سويا، ومنذ ذلك الحين ارتبط هذا القط بي.

خمسة عشر عاما، لا أستطيع النوم إلا وهو بجانبي، حاولت كثيرا إزالة اللون البنفسجي الذي غطى شعره لكنه لم يذهب إلا بمرور الزمن وتغيير الشعر، عاش معي دون اسم فترة طويلة لا أدري ماذا أطلق عليه، إنه قط غريب صاحب شخصية قوية، يتعامل مع الجميع كما لو كان صاحب المنزل، يحب الجلوس لساعات طويلة ناظرا إلى الشارع والمارة من شباك بعينه عندي، وهنا لفت ذلك نظر أحد أصدقائي وقال إن هذا القط ليس كسائر القطط، إنه يستمع للموسيقى ويشاهد الأفلام معنا، انظر إلى نظرته الغريبة وهو يستمع إلى موسيقى فيلم الأب الروحي انظر، وهنا عرفنا ماذا سنسميه، سنسميه فيتو على غرار فيتو كورليوني زعيم المافيا في الأب الروحي، بسبب إحساسنا أن القط تتلبسه شخصية الأب الروحي، فهو على رأي صديقي قط له ماض، يتعامل برقي ويتحرك ببطء وينظر للأشخاص نظرات تفحصية.

وهنا بدأت قصته معي ومع أصدقائي، فأصبح القاسم المشترك لمزاحنا وجلساتنا، واعتبروه ممثلا مثلنا بحكم أن أول جلسة جمعتنا به كان هو أمام الكاميرات يمثل، وقد صور بالفعل بعدها معي في مسلسل وفي فيلم قصير قمت بإنتاجه والتمثيل معه فيه، كبر أمامنا وتزوج من قطة بيضاء جميلة عيناها تشبه صفية العمري، هربت بعد ذلك عندما أصيب فيتو بالمرض واضطررنا إلى إجراء عملية دقيقة له منذ سنين طويلة، وكنت أظن آنذاك أنها النهاية بالنسبة له، ولكن الحق أن إصرار أختي الصغيرة على العناية به وإجراء العملية رغم خطورتها كان من أسباب الحياة بالنسبة له وتعلقه بها، فهي الوحيدة التي كان يسمح لها بقص أظافره وتنظيفه بالمياه، رغم أنه لم يترك أحدا دون علامات للذكرى على يديه، لم يكن يترك حقه أبدا من أي شخص قام بإيذائه أيا كان، كان ملقبا من قبل الدكتور الخاص به بالقط المحب للحياة بسبب صعوبة العملية التي أجراها، وقال إن نسبة نجاحها قليلة تحتاج قطا شخصيته قوية ومتمسك بالحياة.

كان يحب اللعب والأكل حبا جما، أنجب مرة واحدة قطا صغيرا أسميناه كوستا، وكان أبا يحب ابنه ويلعب معه، عاصر الموت مرات عديدة لدرجة أنه وقع من البلكونة وظل سليما، كنت دوما أقول إنه استنفذ روحا من الأرواح السبعة الخاصة بالقطط، ظلت شهيته مفتوحة لآخر يوم في عمره.

كان قد تعب كثيرا في مرحلة ما وأصبح قطا عجوزا يعاني من رئته، والتنفس أصبح صعبا عليه، ظلت أختي سهى لآخر لحظة بجانبه تعطيه المسكنات والأدوية وهو ينظر لها بامتنان، كنت مسافرا وحضرت، وبحكم ذلك كنت تاركا إياه في أيد أمينة (أختي)، لكن في يوم استيقظت على رنين جرس شقتي، وإذ بأختي تخبرني وهي منهارة أن فيتو فارق الحياة وهي ممسكة به بين يديها، أمسكته منها واحتضنته وحدثته فإذ به يفتح فمه ويحرك لسانه ويديه وذيله، فقلت إنه لا زال حيا، وتوجهنا مسرعين للعيادة وهو بين يدي، واستمتعت جيدا إلى دقات قلبه الضعيفة، وعندما وصلنا العيادة قال الدكتور إنه خرج من عنده وهو ميت بالفعل، وأنهم قاموا بكل المحاولات لإنقاذه، وأنا ممسك يديه ناظرا إليه إلى أن مات، وهنا قال الدكتور إنه رفض الموت حتى يراني للمرة الأخيره قبل الرحيل وهذا المبرر الوحيد للبقاء حيا.

حاولت كتم دموعي لكني لم أستطع، تذكرت مواقفا كثيرة مررنا بها معا كان هو فيها شاهدا على أحداث كثيرة، قمت بدفنه داخل بيتي في الحديقة تحت شجرة. أنا أعتقد أن روحه ستصبح جزءا من هذه الشجرة، وسيظل بها لأبد الدهر، حاولت الخروج يومها مع أصدقائي للترويح عن نفسي، لكن ما إن عدت للمنزل وأدرت المفتاح ودخلت ولم أجده خلف الباب كعادته منتظرني وفي استقبالي، حينها فقط تأكدت أن فيتو مات..

وللحديث بقية..

إخلاء مسؤولية: المحتوى في قسم الآراء والمساهمات لا يعبر عن وجهة نظر الموقع وإنما يمثل وجهة نظر صاحبه فقط، ولا يتحمل الموقع أي مسؤولية تجاه نشره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى