رياضة

عن عصر العبودية والأنا العالية: لماذا يبالغ البرازيليون في المراوغة؟

بنهائي دوري أبطال أوروبا عام 2020، كان نيمار جونيور، لاعب باريس سان جيرمان والمنتخب البرازيلي، على موعد مع الخروج من ظل ميسي، حين واجه فريقه نظيره الألماني بايرن ميونخ، لكن للأسف انتهت أحلام السيلساو بطريقة مأساوية، حيث فشل هو وفريقه في الفوز في المباراة الختامية التي استضافها ملعب لشبونة، بل إن الأمر ازداد سوءًا حين اتهمته الصحافة بالأنانية، كما حملته بمفرده ما آلت إليه الأمور بسبب مبالغته في المراوغات دون سبب واضح.

في الحقيقة؛ طرح الصحافة ذلك بما يحمله من رغبة في البحث عن كبش للفداء يظل منطقيًا، بالفعل حين كانت تشير لوحة النتيجة لتأخر نادي العاصمة الفرنسية بهدف مقابل لا شيء قبل انتهاء المباراة بخمس دقائق، لم يجد نجم برشلونة السابق أي حرج في أن يستعرض مهاراته بجانب خط التماس، وكأنه منفصل عن الواقع الذي يحتم عليه الذهاب واللعب مباشرة نحو مرمى المنافس.

نيمار جونيور، لاعب باريس سان جيرمان الفرنسي

لكن هنا علينا أن نطرح سؤالًا: هل نحن أمام حالة فردية عارضة؟ الإجابة هي أنه حتى وإن كان نيمار هو ربما اللاعب الأكثر تدليلًا من قبل الإدارات في تاريخ كرة القدم، إلا أنه ليس الوحيد الذي يرتكب مثل تلك الحماقات، بل يشاركه فيها معظم من يمتلكون جواز سفر برازيليا. فكر قليلًا، استرجع شريط ذكرياتك.. بالفعل ليس الوحيد.

الهروب نحو صخرة الملح

اتخذ البرتغاليون من البرازيل وبعض الدول الإفريقية مستعمرات لهم بالقرن الـ16، في ذلك التوقيت، كانت العبودية تنهش عظام كل أصحاب البشرة الملونة، حيث كان يتم اقتياد الأفارقة من أنغولا والكونغو نحو البرازيل للعمل بالسخرة في مزارع قصب السكر، آنذاك، لم ينتقل إلى البرازيل العمال وذووهم وحسب، بل جلبوا برفقتهم ثقافتهم أيضًا، أو ما يمكننا تعريفه بالعادات.

لم يمتلك العمال أي سلاح يحميهم من بطش المستعمر الذي شحنهم على متن سفن إلى البرازيل، لكن طريقتهم للدفاع عن أنفسهم أو وسيلتهم للهروب كانت تتلخص في فن الـ«كابويرا» القتالي أنغولي المنشأ، والذي يتخذ من حركات الجسد أداة للدفاع عن النفس دون استخدام أي سلاح بمعناه المفهوم. فقط الركل، الخداع والتمويه.

مع انتهاء عصر العبودية، وقيام ما يشبه الجمهورية، لم يختلف كثيرًا حال هؤلاء الذين يسكنون تلك البقعة التعيسة من الأرض، فلم تكن العبودية هي المؤرق الوحيد، لكن المأكل والملبس والمسكن، ما دفعهم لاستخدام الـ«كابويرا» للمرة الأولى بشكل مناف للإنسانية، فقد ساعدتهم في نشر الجريمة والسرقات. ما جعل الحكومة تجرم ممارسة الـ«كابويرا» حتى وإن لم تكن لغرض مشين.

بحي يدعى «ساودي» بريو دي جانيرو، يحكى أن أصحاب البشرة السمراء اتخذوا من مكان يسمى صخرة الملح مكانًا لممارسة الكابويرا، لكن مع دمجها لرقصة السامبا الفردية، ليظهر إلى النور ما يعرف بالـ«جينجا». الـ«جينجا» هي روح الشعب البرازيلي، حقيقة تفرده في التعبير عن نفسه عبر التمايل بشكل انسيابي.

كرة القدم ليست لعبة قتالية، لذا عليك أن تلعب بجمالية

- بيليه، أسطورة البرازيل.

هذا المزيج الذي تأثرت به الثقافة البرازيلية عبر تاريخها، ألقى بظلاله بالتأكيد على كرة القدم، وأعطى تعريفًا مغايرًا لكرة القدم هناك، في البرازيل لا تقاس الأمور عادة بالفوز أو الخسارة، لكن تقاس جودة اللاعب بمدى قدرته على التحكم بالكرة، وتطويع سائر جسده للحفاظ عليها، وكلما كنت متحكمًا أفضل، أصبحت لاعبًا أفضل، معادلة بسيطة.

صراع أيديولوجي

رأت الأمة البرازيلية قبل عام 1950 في كرة القدم الخاصة بها مدعاة للتفاخر، ففي ظل البرجماتية التي سادت كرة القدم بسائر بقاع أوروبا، كان رواد الملاعب البرازيلية تتم مكافأتهم بعروض ساحرة بشكل دوري، لكن كارثة «ماراكانزو» جاءت لتضرب هوية الـ«جينجا» في مقتل، لأن الفريق الذي كان يستعد أمام جمهور غفير للتتويج بكأس العالم على ملعب ماراكانا  ضد منتخب أوروجواي، خسر المباراة بشكل درامي، ما جعل بعض الجماهير تنتحر حرفيًا ‑حسب بعض المصادر- من هول المفاجأة. في هذه اللحظة تحديدًا وجد البرازيليون أنفسهم أمام معضلة أخلاقية، فهل يتمسكون بالمبادئ التي ترتكز عليها هويتهم، أما يتجاهلونها للبحث عن الفوز المادي؟.

بسياق متصل، كان بيلا جوتمان، مدرب المجر الأسطوري، قد أنهى رحلته مع فريقه التاريخي «هونفيد»، ليصل بحلول عام 1958 كمدرب لساو باولو البرازيلي. آنذاك، لفت انتباهه مقدرة مدافعي البرازيل على المراوغة والتمرير بشكل متقن، على عكس الناشطين بإنجلترا مثلًا. فما كان له إلا أن اقترح على مسؤولي الاتحاد البرازيلي أن يتم تطوير خطة اللعب المتبعة في البرازيل والمعروفة بالـ«WM» وتحويلها إلى الـ«4–2‑4″ من أجل إحداث ثورة تكتيكية بذلك العصر.

بيلا جوتمان، مدرب المجر التاريخي

في البداية قوبل الطرح بالرفض، لأن البرازيليين، وخاصةً الجماهير، كانوا يرفضون إضافة أية تعقيدات للعبة الخاصة بهم، رغبة منهم في منح لاعبيهم كل الحرية في الرقص على البساط الأخضر دون مضايقات تذكر، لكن جوتمان كان واثقًا بأن مقترحه لن يؤثر على جمالية الـ«جينجا» بل سيخلق بعدًا جديدًا لكرة القدم التي تمتع وتربح أيضًا. على مضض؛ بدأ العمل وفقًا للمقترح أعلاه، وللحظ السعيد تزامن ذلك مع وجود جيل عبقري للمنتخب البرازيلي بقيادة بيليه وجارينشيا، اللذين قادا المنتخب للفوز بكأس العالم 1958 بأداء ونتائج مذهلة.

من يريد المتعة فليذهب للسيرك

الجينجا هي سر انتصارات البرازيل الذي لم يعد سرًا، هي طريقتنا الوحيدة للحلم.

-روي كاسترو، الكاتب والمؤرخ البرازيلي

الفوز بثلاثة كؤوس للعالم جعل من مسألة الأداء المقترن بالنتائج الإيجابية أمرًا ممكنًا، بعدما كان عصيًا من قبل، وهنا تحديدًا ظهرت ثاني المشكلات، فمع مرور السنوات لم تعد المهارات مع هامش بسيط من التكتيك كافية لتحقيق الألقاب، ربما حدث ذلك بسبب توغل الرأسمالية التي تهدف للربح المادي إلى اللعبة، ففي هذه الحالة لن تتمكن من جني الأموال لمجرد أنك تلعب كرة قدم ممتعة، لكن يجب الفوز ببطولات، لتعود ثانيًا نفس المعضلة الأخلاقية لتطفو على السطح، ما هو الأهم: الأداء الجميل أم حصد الألقاب؟

الجماهير لها رأي قاطع منذ اللحظة الأولى وربما حتى يفنى العالم، الأهم لذلك الشعب هو أن يشاهد ما يجعله يقفز من الدهشة والإعجاب من على كرسيه، لا يهم ما سوف تؤول إليه الأمور بنهاية المطاف، لا تتعجب، تلك ليست رواية أفلاطونية يقصها عليك شاب حالم، فلدينا دليل.

في 82، كانت البرازيل تمتلك جيل «اللعبة الجميلة» بقيادة المدرب «تيلي سانتانا» وعظماء مثل زيكو وسقراط، الجيل الذي يراه البعض الأفضل تقنيًا في تاريخ البرازيل وربما في تاريخ اللعبة نفسها. لكن الغريب أن كم الإشادات التي نالها ذلك الفريق لا تتناسب تمامًا مع توصيفنا الحالي للفريق القوي، لأنه ومع كل ما قدمه من أداءات عظيمة، خسر مباراته الأخيرة بكأس العالم 82 أمام إيطاليا بأكثر الطرق سذاجة على الإطلاق، عندما رفض سانتانا أن يركن للدفاع بغية الحفاظ على نتيجة اللقاء التي تشير إلى التعادل، بل حث لاعبيه بتطرف نحو الهجوم، قبل أن تعلن ثلاثية باولو روسي عودة المنتخب خالي الوفاض. على النقيض، تمت مهاجمة الفريق الذي صنعه بيريرا وزاجالو في 94 والذي أنهى مشاركته بكأس العالم بالولايات المتحدة الأمريكية حاملًا للقب، بحجة أنه منتخب ممل، برجماتي، يشبه الأوروبيين.

رفض الجماهير والتقليل من إنجاز بحجم الفوز بكأس العالم يضعنا أمام آخر الحقائق، وهي أن كرة القدم مع بداية التسعينيات شهدت طفرات تكتيكية معقدة جعلت من المهارة عنصرًا ثانويًا في اللعبة، لذا فمن غير المنطقي أن تطالب الجماهير بالأداء الفردي والإنجاز الجماعي بآن واحد، إلا باستثناءات كتلك التي حدثت بكوريا الجنوبية واليابان عام 2002. وذلك ما أكده روماريو بعبارات رفضت الإساءات التي وجهت لمنتخب 94، لأنه يرى بأن المهم كان الفوز بكأس العالم وهو ما حدث.

الآن يمكننا الإجابة عن سؤالك بصورة مبدئية، نيمار، رونالدينهو، كاكا وجارينشيا وأي مراوغ فريد هم أبطال لذلك الشعب، لأنهم ما زالوا يحملون الجينات الأصلية للبرازيليين، لم يتأثروا بالنزوح إلى أوروبا وما خلفه من تغييرات حلت على هوية عدد لا بأس به من أبناء جلدتهم الذين اتجهوا للبرجماتية كحل للبقاء في عالم الاحتراف.

أخيرًا ربما لن يتوقف نيمار عن المراوغات حتى وفاته، وقد لا تتوقف أصابع الاتهام عن الإشارة إليه ولكل من يشبهه مستقبلًا كمتفاخر بائس، كذلك سيظل كل المراوغين أبطالًا، أبطالًا في نظر البرازيليين وحدهم.

 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى