شخصيات مؤثرةرياضة

تشارليز ريب.. كيف دمر محاسب عبقري كرة القدم الإنجليزية دون أن يدري؟

هل يمكنك منحنا تصورا مبدئيا عن مفهوم كرة القدم الجميلة بالنسبة لك؟

قبل أن تجيب، علينا فقط أن نحيطك علما بأن جمالية هذه اللعبة نسبية، بمعنى أنها تخضع في المقام الأول لعين المشاهد، الذي يمتلك كل الحق في أن يحب ويكره ما يشاء، مهما بدا متطرفا في تفضيلاته، فهنالك من يرى أن الدفاع خير وسيلة للهجوم، وهنالك من يرى أن العكس هو الصحيح، لكن ما نحن موقنون من حقيقته هو أن أي مشاهد يريد أن تبقى كرة القدم لأطول فترة على أرضية الملعب، وليس الهواء الطلق، وهو ما اختلف معه تماما المدعو «تشارلز ريب»، الذي رأى في خمسينيات القرن الماضي، أن أفضل طريقة للفوز هي أن تبقى الكرة معلّقة في السماء.

فلاشباك

كان الإنجليزي «تشالز ريب» (مواليد العام 1904) والذي بدأ حياته كمحاسب في سلاح الطيران الملكي البريطاني مولعًا بكرة القدم، كما كان مشجعًا وفيا لناديه المحلي «بلايموث أرجايل»، حيث بالكاد كان يغيب عن حضور مبارياته من أرض الملعب. إلا أن طبيعة عمله بالجيش البريطاني اضطرته للانتقال إلى لندن، حينها، أصبحت مشاهدته لمباريات «أرسنال» و«توتنهام» الإنجليزيين متاحة له.

وقتئذ، أعجب «ريب» بما يقدمه مدرب آرسنال «هاربارت تشابمان» من كرة قدم هجومية معتمدة على الأداء المباشر للأجنحة، والسبب الآخر في إعجابه الشديد بأفكار تشابمان كان جلسة مطولة مع قائد الفريق «تشارلز جونز» بالعام 1933 في أحد معسكرات الجيش البريطاني بلندن، والذي جعله يقترب أكثر من حقيقة عمل المدرب الذي أصبح من ذلك اليوم المثل الأعلى الذي يريد أن يتبع خطواته.

تشارليز ريب.. كيف دمر محاسب عبقري كرة القدم الإنجليزية دون أن يدري؟

بأحد الأيام، وتحديدًا في مارس 1950، يمكننا القول إن كرة القدم بشكلها الحديث كانت أمام لحظة فارقة، آنذاك، لم يكن قد ظهر إلى النور ما يعرف حاليا بالإحصائيات، وكان عمل المدرب يقتصر على التدريبات البدنية وتجميع أفضل المواهب المتاحة وضمها للفريق دون محاولة إيجاد أنماط لعب متكررة تضمن الفوز، باختصار، لم يكن هنالك ما يعرف بالإحصائيات، حتى بأشكالها البدائية كعدد التسديدات، التصديات وحتى نسب الاستحواذ بين فريقين متنافسين.

كان «ريب» حاضرا لمباراة «سويندون تاون» و«بريستول روفرز»، وفي لحظة شك، قرر أن يخرج دفترا وقلما من جعبته، ليحاول الوصول إلى سبب مباشر في بطء أسلوب لعب فريق «سويندون» وعدم قدرتهم على خلق فرص جيدة للتسجيل خلال شوط المباراة الأول، لذلك وبطريقة بدائية بدأ في تسجيل ملاحظاته بداية من الشوط الثاني مستخدمًا قدرته الممتازة على جمع الأرقام وتحويلها لرموز خاصة به توضح العيوب التي يجب أن يتفاداها الفريق وفقًا لما تشير إليه الأرقام. الأمر الذي انتهى إلى توصله لـ147 حركة هجومية قام بها فريق «سويندون» خلال المباراة التي انتهت بفوزه بهدف نظيف.

أخيرًا وصل «ريب» لصيغة مبدئية تشير إلى أن مباراة كرة القدم الكاملة تشهد 280 حركة هجومية من كل فريق في المتوسط، كما أنه غالبًا يتوقع أن يتم تسجيل هدفين بكل مباراة، مع احتمالية وجود هامش بسيط من التحسن للوصول إلى هدف ثالث. ومن هنا يمكننا القول إننا أصبحنا أمام أول محلل إحصائي حقيقي في تاريخ اللعبة.

نجاح ونظريات

شغف «ريب» بكرة القدم دفعه للعمل بشكل أكبر، فقد نقل بعض الشاهدين على حياته المهنية تواجده في ملعب «بلايموث» مرتديًا خوذة بها كشاف إضاءة وممسكًا بدفتره وقلمه يدون ملاحظاته على مباريات كرة القدم، الأمر الذي وصل لحضوره حوالي 40 مباراة بالموسم، ولتدرك مدى المجهود الجبار وراء هذه المحاولة، فقط دعنا نخبرك بأن تحليله لمجريات مباراة واحدة كان يتطلب 80 ساعة من العمل.

بالفعل، ذاع صيت «ريب»، ما جعل «جاكي جيبسون»، الدير الفني لبرينتفورد الإنجليزي، والذي كان يصارع للبقاء في دوري الدرجة الثانية يتعاقد معه بدوام جزئي ليقدم له بعض النصائح التي قد يشير إليها نموذجه الإحصائي، الأمر الذي أثمر بالفعل عن مضاعفة سجل برينتفورد الإنجليزي التهديفي، وتأمين الفريق ضد الهبوط، بل وصل الأمر للفوز بـ13 مباراة من أصل 14 لعبها الفريق منذ التعاقد مع «ريب».

بعد النجاح مع برينتفورد، حصل «ريب» على فرصة عمل مماثلة بالموسم التالي مع فريق «وولفرهامتون» ومدربه «ستان كوليس» الذي آمن أيضًا بما يمكن للإحصائيات أن تضيفه للفريق وتعزز من قدرته على تسجيل المزيد من الأهداف وبالتالي الفوز بالمباريات.
مع «وولفرهامبتون» كان «ريب» قد طور بالفعل نموذجه البدائي، وأضاف إليه توصيات حول تحركات اللاعبين ومناطق الخطورة في الملعب، ففي خلال 3 سنوات ونصف ساعد «وولفز» على لعب كرة قدم هجومية، مباشرة، لا تعتمد إلا نادرًا على المهارات الفردية للاعبين والأهم أنها تحقق الفوز، ليس أي فوز، بل تحقيق لقب ما كان يسمى بـ«كأس الأبطال الأوروبية» ضد فريق «هونفيد» المجري التاريخي.

«تشارلز ريب عزز بالأرقام وجهة نظري عن كيفية لعب كرة القدم».

-ستان كوليس، مدرب وولفرهامبتون.

السؤال المهم الآن، إلى ماذا توصل «ريب» بعد جمعه الأرقام لسنوات؟

بداية، يجب التنويه إلى أن عمل «ريب» لم يكن متحيزا لأسلوب ضد آخر، فقد كان عمله عبارة عن تقديره الشخصي واستنتاجه لما تحكيه الأرقام، لذا قد تعتقد أن كل ما هو قادم لا يمت لكرة القدم بصلة، لكن تذكر، فقد كان ذلك عمل رجل واحد، في عصر ما قبل التكنولوجيا الحديثة.

في 1953 نشرت الجريدة الملكية للإحصائيات ملخص ما توصل إليه «ريب» بعد تحليله لحوالي 587 مباراة، وجاء كالآتي:

- %99 من سلاسل التمرير في كرة القدم لا تتعدى 6 تمريرات.
-%95 من سلاسل التمرير لا تتعدى 4 تمريرات.

لذلك افترض أن المبدأ الأول الذي يجب أن يعتمد عليه أي فريق يسعى لتسجيل الأهداف هو تقليل عدد التمريرات قدر المستطاع وإرسال كرة طويلة مباشرة نحو حدود منطقة جزاء المنافس. كذلك وجد أن:

-الفريق يسجل هدفا غالبًا بعد متوسط 10 تسديدات، لذلك يجب زيادة عدد التسديدات إذا أردت أن تسجل المزيد.
-%50 من الأهداف تسجل بعد تمريرة واحدة، ما يعني أن استرجاع الكرة من الخصم في ملعبه يشكل فرصة مثالية للتسجيل، والعكس بالعكس، فبقاء الكرة على الأرض في منتصف ملعبك يعني تهديدا لك.

غالبًا توصلت الآن لما أردنا أن نخبرك إياه، «تشارلز ريب» كان السبب الرئيسي فيما عانته كرة القدم الإنجليزية من طريقة لعب وصفت بالمملة بعد ذلك، حتى وإن كانت ثورية آنذاك.

لأن الأرقام أحيانا تكذب

كان «ريب» يثق ثقة عمياء في تحليلاته التي أفنى عمره في تطويرها، بل إنه كان يرفض أن يعترف بإمكانية وجود أخطاء فجة في نظرياته، يعتقد أن النجاح المدوي الذي حققه منعه من الاعتراف بتفوق منتخب ألمانيا ضد إنجلترا في 1972 بسبب ما يعرف بالكرة الشاملة، والتي تعتمد في الأساس على التمرير كثيرًا، والتي نالت بالفعل ثناء المتابعين بأوروبا في ذلك الوقت، لكن بدلًا من ذلك، تلاعب «ريب» بالأرقام ليؤكد أن المشكلة لم تكن في الأسلوب الذي أظهر المنتخب الإنجليزي عاجزًا عن إيصال الكرات الطويلة لمهاجميه، فحسب تحليله، في مقابل كل 5 تمريرات طولية تم قطعها، هنالك 5 أخرى وصلت للمهاجمين، ما يعني أن الخطأ فردي وليس في المنظومة.

تشارليز ريب.. كيف دمر محاسب عبقري كرة القدم الإنجليزية دون أن يدري؟ما لم تظهره أرقام «ريب» هو ما تم اكتشافه بعد ذلك بأكثر من نصف قرت تقريبًا، وهو ما ذكره «مايكل كوكس»، مؤلف كتاب «Zon­al Mark­ing» في أحد تحليلاته، بأن الاستحواذ على الكرة بشكل كبير في الأغلب يعني بأن الفريق ‑حسب الأرقام- سيستطيع تسديد المزيد من الكرات على مرمى المنافس وليس العكس، وأن الاستحواذ لا يكون بغرض المتعة وفقط، بل يمكن أن يكون أكثر فعالية من اللعب المباشر.

ما أغفله «ريب» أيضًا هو الفوارق الفنية ما بين اللاعبين والذي بدوره قد يحدث الفارق ويحدد أي طريقة لعب يجب اتباعها لتحقيق الفوز، وهو ما لم يفعله بالتأكيد، ربما لأنه تحيز لرأيه عقب تحقيق نظرياته للنجاح حسب رأي «ديفيد سالي»، مؤلف كتاب «لعبة الأرقام».

أخيرًا؛ محاولات تشارلز كانت ثورية بالفعل، ربما أثرت بالسلب على نظرة أجيال كاملة بإنجلترا لكرة القدم، وقد يعتقد بأنها السبب الأول في كراهية مشجعي كرة القدم لطريقة لعب أندية إنجليزية بعينها، لكن الأكيد أنه لم يكن المذنب الوحيد، ببساطة لأنه لم يكن يدري أن ما فعله قد يحمل قدرًا من الخطأ، لأن عمله كمحاسب فرض عليه الثقة في الأرقام، لكنها وللأسف صماء، لا يمكنها أن تحكي كامل الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى