ثقافة ومعرفة

«ديك الجن».. ومأساة عاشق أودت به الغيرة

من هو ديك الجن؟ ربما قد يتبادر للأذهان عند سماع السؤال أنه نوع من الجن، أو شيء له علاقة بالمنجمين والسحرة، ولكن قد تندهش عندما تعرف أنه أحد أشهر شعراء العصر العباسي وعلم من أعلامه.

اسمه ومولده

هو أبو محمد عبدالسلام بن رغبان بن عبدالسلام بن حبيب بن رغبان بن يزيد بن تميم الكلبي، الملقب بديك الجن، أصله من سليمة ومولده بمدينة حمص سنة 161 هـ. وتميم أول من أسلم من أجداده، وكان جده حبيب يعمل لدى أبي جعفر المنصور، يقول عنه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني ج 14: (ديك الجن لقب غلب عليه، واسمه عبدالسلام بن رغبان بن عبدالسلام بن حبيب بن عبدالله رغبان بن يزيد بن تميم).

ولد في مدينة حمص (إحدى مدن سوريا) وكان من الجوالين في بساتين حمص، من العاشقين للتجوال في الطبيعة، كما أنه من المولعين بشرب الخمر ومعاقرته، وكان علما من أعلام زمانه، وقد أجمعت المصادر واتفقت على اسم شاعرنا، لكنها اختلفت في تحديد أصله كونه عربيًا أم ليس بعربي.

لماذا لقب بديك الجن؟

أما لقبه المعروف به وهو ديك الجن، فقد وردت حكايات وقصص عديدة في كتب التراث في سبب هذا اللقب، والتي لم تتفق حول سبب إطلاق هذا اللقب على شاعرنا، ومن هذه الأسباب:

أنه كان معتادا على الخروج إلى البساتين في حمص والشرب فيها؛ فشبه بديك الجن لعادته هذه.

السبب الثاني، أن عيني عبدالسلام كانتا خضراوين، فلذلك لقب بديك الجن وهذا ما ذكر في مصادر قديمة، كتاريخ دمشق لابن عساكر، ثم في أعلام الزركلي.

وقيل إنه سمي بديك الجن، لأنه ذكر وصف الديك في شعره، ومنذ ذلك الوقت أطلق عليه لقب ديك الجن، وقد قيل لتقليده صوت الديك، كما جاء في كتاب «نفحة اليمن» لأحمد بن محمد الشرواني.

حياته الشخصية

لم تذكر كتب التراث الكثير عن أسرة ديك الجن، باستثناء زوجته ورد، فإننا لا نعرف الكثير عن أسرة الشاعر، فلا نعرف اسم زوجته أو عدد زوجاته وأولاده، فلقد تزوج ديك الجن وأنجب، وكان له ولد يكنى أبا محمد وكانت وفاته سنة 235 هـ.

كانت حياة ديك الجن حافلة بالأحداث، حيث قضى مجمل حياته في مدينة حمص فهو لم يغادر الشام منذ ولادته وحتى مماته، أما طفولة ديك الجن فيبدو أنها كانت عادية مثل أقارنه، ويبدو أنه قضى طفولته في المساجد حيث حلقات الدرس والبحث، والمعلمين، والعلماء، وهذا استنتاج لما وجد من شعره، فقد كان مبدعًا ملمًا بناصية الأدب واللغة.

أما فترة شبابه، فكان معروفا عنه الاستهتار، باحثا عن اللذة أينما كانت في مختلف أشكالها الممكنة، وكان شعره في هذه الفترة يتكلم فيه عن اللذة والخمر والغزل، وربما تكون هذه الصورة التي تناقلت عنه في تلك الفترة مبالغا فيها، وأغلب الظن أنه كان يعلن عن تمرده على المجتمع والأحداث السياسية في تلك الفترة، إلا أن شاعرنا قد بالغ في رفضه.

أما شربه الخمر فللأسف كان الأمر منتشرًا في القصور وبين بعض الناس في ذلك الوقت وهو ليس مبررًا لفعل الكبائر، ولكن من المؤسف أن ذلك الأمر كان موجودا في أواخر العصر العباسي، ولم تختلف فترة كهولته وشيخوخته عن شبابه كثيرًا.

مأساة ديك الجن

يُعتبر أبو الفرج الأصفهاني من أوائل من رووا هذه المأساة في كاتبه الشهير الأغاني، حيث روى القصة بوجه أقرب للواقعية، يقول الأصفهاني: وكان عبدالسلام قد اشتهر بحب جارية نصرانية من أهل حمص، يهواها وتمادى به الأمر حتى غلبت عليه وذهبت به، فلما اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها، فأجابته لعلمها برغبته فيها، وأسلمت على يديه فتزوجها، وكان اسمها وردًا وكان قد أعسر واختلت حاله، فرحل إلى سلمية قاصدًا أحمد بن على الهاشمي، فأقام عنده مدة طويلة، وحمل ابن عمه بغضه إياه بعد مودته بسبب هجائه له، فأذاع على تلك المرأة التي تزوجها ديك الجن، أنها تهوى غلامًا له وتخونه، وشاع الخبر بين الناس حتى أتى عبدالسلام، فكتب إلى أحمد بن على الهاشمي شعرا يستأذنه في الرحيل إلى حمص لِعلمه ما بلغه من خبر زوجته.

إن ريب الزمان طال انتكاثه * كم رمتني بحادث أحداثه

فأذِن له وعاد إلى الديار وانتظره ابن عمه على باب حمص، وهو يرحب بعودته ويوبخه على تمسكه بتلك المرأة الفاسدة وأشار عليه بطلاقها وكان ابن عمه قد دس الرجل الذي رماها به، وقال: له إذا قدم عبدالسلام ودخل منزله، فقف على بابه كأنك لم تعلم بقدومه، وناد باسم ورد فإذا قال من أنت؟ فقل أنا فلان، فلما نزل عبدالسلام بيته، وألقى ثيابه، سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته أنها لا تعلم شيئا عن القصة، ثم قرع الرجل الباب، فقال من هذا؟ فقال : أنا فلان، فقال لها ديك الجن: يا زانية زعمتِ أنكِ لا تعرفين عن الأمر شيئًا! ثم أخذ سيفه فضربها به حتى قتلها، وقال في ذلك:

لَيتني لم أكن لِعطفك نلت * وإلى ذلك الوصال وصلت

وبلغ الحاكم أمره فأمر بإحضاره، وبعد فترة علم الحقيقة فندم ندم شديدًا فقد أفقدته غيرته حبيبته، ودفع أهله فدية ورد، وظل يبكي وردًا حتى مات، وقال فيها عدة أبيات تعد من أشهر أبيات الرثاء:

يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمَامُ عَلَيها * وجَنَى لَها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها

رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما * رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها

قَدْ باتَ سَيْفي في مَجَالِ وِشَاحِها * ومَدَامِعِي تَجْرِي على خَدَّيْها

فَوَحَقِّ نَعْلَيْها وما وَطِئ الحَصَى * شَيءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها

ما كانَ قَتْليِها لأَنِّي لَمْ أَكُنْ * أَبكي إذا سَقَطَ الذُّبَابُ عَلَيْها

لكنْ ضَنَنْتُ على العيونِ بِحُسْنِها * وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الحَسُود إِليها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى