آراء ومساهمات

محمد السيد يكتب: رحلة في فلسفة مصطفى إبراهيم

الحياة متقلبه كالحرباء، نرتدي أبيضها تارة، ونتشح عنوةً بأسودها تارةً أخرى، ويسيطر عليها وعلينا الرمادي في معظمها، وأثناء خوضنا لتلك الرحله نبحث دائمًا عن رفيق يجتاز معنا تلك المنعرجات صعودًا وهبوطًا، ويمد لنا اليد النجاة إذا علقنا في المنتصف، نفتش بلا كلل عن واصف لما نمر به ويمر فينا، عن رسول نهتدي به خلال سيرنا في الطرق الوعرة، رسول قد يرى لنا في الرحلة ما لا تستطيع أن تراه أعيننا المجردة.

وللناس في اختيار رفقتهم مذاهب، وللزمن نصيب الأسد في تنقيح تلك الخيارات لكي تتفق مع التقدم الحضاري الحادث فيه، ولعلً الشعر هو أقدم وأحدث هؤلاء الرفاق، حتى يُقال إنه بدأ مع بداية الخلق، ولكنه متقلب هو الآخر، فكلما تعاقبت عليه الأزمان يستطيع ببساطه أن يخلع عباءته القديمة ويرتدي رداء العصر، ما جعله في مقدمة مصاف تلك الخيارات، فيُعد في وجهة نظر الكثيرين خير صاحب للإنسان، وخير من يُعبر عنه، ويستمع إلى همومه، ويبحث معه عن الحلول أحيانًا، ويؤرخ لحياته ولعصره فيما بعد.

والشعر كغيره من أمور الحياه، يأخذ طابع ولغة وأفكار من كتبوه، وذلك لكي يكون سهل التعبير والتأثير عن من يُقال فيهم، وفي من يُقال لهم، ويعج كل عصر بشعراء كُثر، ويبرز من وسط شعراء كل عصر، شاعر يجد الناس ضالتهم في أبياته، يجدوا فيها الحياة، والحب، والمقاومة، والانتصار، والانكسار، يجدوا أنفسهم في ثنايا كلماته، وإذا أردنا أن نحصر متميزي ذلك العصر من الشعراء، فلا بد أن يكون «مصطفى إبراهيم» أحد هؤلاء السحرة، بل كبيرهم الذي علمهم وعلمنا.

كل مره قرأت أو سمعت قصيدة لمصطفى إبراهيم، وقفت متعجبًا ومتسائلًا، هل يعرفني مصطفى لهذه الدرجة؟ كيف يعبر عن ما بداخلي بهذه الطريقة السلسة؟ مصطفى يسطر أبياتًا تصف ما أمر به في أشد أحوالي ظلمة وتيه، وأكثرها بهجة وانفراج، يصفني أنا وقريني الذي لا يشبهني، يعبر عن مزاجي المتقلب وكأنه يكتب من داخل خيوط عقلي.

بدايةً من هو مصطفى إبراهيم؟

مصطفى إبراهيم شاعر عامية مصري، بدأ نجمه في البزوغ منذُ 10 سنوات، تزامنًا مع اندلاع ثورة يناير، ويلقبه الكثيرون بشاعر الثورة إلا أنه يرى أن الثورة حدث عظيم لا يقف عند شاعر بعينه، له 3 دواوين شعريه وهي، «ويسترن يونيون فرع الهرم»، و«المانيفستو»، و«الزمن».

يعتبر الكثيرون ديوان «المانيفستو» هو أهم دواوين مصطفى نظرًا لتناوله وتأريخه لأحداث ثورة يناير في قصائده، وهي خانة بالرغم من عظمتها إلا أنه يتم تحجيم شعر مصطفى فيها، بالرغم من شمولية وعمق أشعاره، والتي لا يجب أن تنحصر في جهة واحده، بل يجب أن تُرى بعين أوسع لأن فيها ما يستحق التدبر، لمصطفى رؤية عظيمه وفلسفة خاصة في كافة أمور الحياه، فما إن تشرع بقراءة أحد أبياته إلا وستقع في سحره وستجده وكأنه يوجه حديثه لك وعنك، تشعر أنك لو كتبت لكتبت ما قرأته عند مصطفى إبراهيم.

عن علاقة الإنسان بربه

وإذا كنا سنتحدث عن الحياة، فلعل البداية المثلى ينبغي أن تكون عند خالق الحياة، عن الله عز وجل، فيستطرد مصطفى إلى علاقة كل منا بربه، تلك العلاقة المعقدة ذات الأوجه المتشعبة، فيكتب شاعرنا عن تلك الحالات في قصائد عدة، أو حتى في أبيات في قصائد تتحدث عن مواضيع أخرى.

فيصف حالة التشتت التي قد تصيبنا في بعض الأوقات، ويتساءل هل يوجد بالفعل من هو على دراية كاملة بالخالق؟ كما يدعي البعض وينصب نفسه واصيًا على الجميع، يتساءل دون أن يجيبك، ولكنه يعطيك الإجابة في متن السؤال، فيقول في قصيدته «تايه في الزحام»:

مين فينا عارفك يا رب … ومين فينا لأ

«مين اللي فينا لو قال بحبك … قالها بحق

واحد بدقن بيقول حلال ويقول حرام

ولا فواعلي أرزوقي شد الحزام

ولا خامورجي استسمحك قبل أما نام

ولا عيل لسه معرفش الكلام

ولا هطلع أنا اللي عارفك … أنا اللي تايه في الزحام».

وفي نفس السياق يقول في ديوان المانيفستو:

«أنا لِسه يارب … بحطة إيدك ع المسرَح

أنا لِسه بحاوِل أستوعِب ف طبيعة الدور

معييش النَص … وخايِف بس أتوه وأسرَح

وقت أما تقرر تِكشِفني بـ سبوتّ النور».

ويناجي ربه مناجاة الزاهد الورع في جزء من قصيده أخرى «تفرانيل 100»، يناجيه طالبًا ما نطمح في تحصيله جميعًا، يدعوه سائلاً الرزق، والمن بنعمة الرضا بالمقدور، فيقول:

«يا خالق كل شئ ناقص … كمالته معاك
يا شايل من الحاجات حتة … بنترجاك
بحق المشهد الكامل
و اسمك اللي أنا عرفته
تسيب اللي يكفينا
و تكفينا بما سبته
ما تحوجناش
لجاي مجاش
وترضينا بما جبته».

كيف يرى الحياة؟

عن الدنيا في المجمل

يؤكد مصطفى من الوهلة الأولى لأشعاره حتمية مرور الزمن، كما يُخبرنا أن أحداث الحياة مُعادة ومُكررة، وأن الطارئ الوحيد هو الإنسان نفسه، فيقول في قصيدة «مكنتش وصلتلك» إحدى قصائد ديوانه الأول:

«الدنيا سوق كانتو
مفيهوش حاجات زيرو
وزبونه أنا وإنتو
علشان مفيش غيره
وإنت زبون عادى
ف مفيش حاجات مخصوص
ومفيش قميص واحد
في الدنيا مش ملبوس
ميت مرة من قبلك
كل اللي هيقابلك
كان ماضي واتسابلك».

ثم يُعيد صياغة نفس الفكرة بطريقه أخرى في ديوانه الأخير في قصيدة «أهالينا»:

«زي الفروق البسيطة اللي بين أوراق الشجر اللي موجوده السنه دي

وبين كل أوراقه اللي موجوده على مر السنين

إحنا القدام الجداد

إحنا ولاد الولاد

وحياتنا مش متعادة

بس الزمن متعاد

الدنيا اللي من مليون سنة لسه جديده في عنينا

حتى لو فرضًا بكرة هنتكلم زي أهالينا».

عن الخوف من الخوف

الخوف، ذلك الوحش الكاسر، الذي ينسج خيوط شباكه بمنتهى الدقة، في انتظار أن نقع أنا وأنت كفرائس فيها، ومن ثمَ يُزهق أرواحنا، الخوف هو آفة الإنسان الكبرى، التي تقتل الماضي والحاضر والمستقبل، يستنكر منه مصطفى، فيقول في قصيدة «أن تراك»:

«المراية بعيدة جداً،
والطريق على مد شوفي
والفضول اللي ف عنيا إني أشوفني
مداري خوفي».

ويقول أيضًا في قصيدة «تفرانيل 100»:

«بلخبط ف الأسامي عشان
بخاف أنسى
بلخبط ف الدنيا عشان
بخاف لا ما أعيشش».

عن الحياة الدائرة، ودائرة الحياة

يحاول مصطفى أن يجد إطارا وقالبا يمكننا حصر بعض مما يحدث في الحياة بداخله، حتى يتسنى لعقولنا استيعاب ما يدور فيها، ويشرح لنا مفهوم الزمن من وجهة نظره، لعل الدائرة كانت القالب المناسب الذي صاغ فيها تساؤلاته، وعبر فيها عن وجهة نظره في الحياة، فتحدث عن حكمة الإله، والأمل واليأس، والتساؤلات التي تدور داخل ذهنه حول قيمة هذه الحياة، فيقول في قصيدة «مفيهاش حاجات ببلاش»:

«أصل الحياه للعلم

مفيهاش حاجات ببلاش

وعشان ما تصبح فيلم

وأصلا عشان تتعاش

كادر الحياه المشحون

فرح وألم وشجون

لازم يكون … بيلف

لازم يكون … بيدور».

كما يقول في إحدى قواعد الدائرة السبع الذي كتب عنها في ديوان المانيفستو وخاصة «قاعدة 4»:

«كل الطرق ف الكون
بتلف على واسع
ف مفيش نفر فاكر
إزاي رجع أو لف
شوف الإله حكمته
ف الدايرة عامله إزاي
و زاي محجمنا
من غير ما يعمل سقف».

ويقول أيضًا في قصيدة «ماذا يدور»:

«قل لم ولن تعلم
ماذا يدور
ف الدنيا اللي طالَّة زي السِّحر م البلُّور
إلا إذا فتَّحت … عيونك الاتنين ف وش النور
ورأيت سنين البشر وهيَّ بتتبني وتتهد
يا هل ترى الدنيا دي بجد ولّا أنا بحلم؟
قل لم ولن تعلم يا أسير الزمن
الدنيا هيَّ الشروة ولّا هيَّ التمن»

في البدء كان الشك

يختلف العلماء والفلاسفة في تفسير الشك، فيعرفه سيغموند فرويد على أنه حالة مرضيه تقود إلى انعدام الثقة بالنفس، ويعرفه آخرون باعتباره شيئا مقدسا يحثُ على إعمال العقل والتفكير المتروي في ماهية الأشياء قبل قبولها أو رفضها، كان الشك في علم الإلهيات القديم «صوت ضمير مُبهمًا» ومن الضروري إدراكه، وفي شعر مصطفى إبراهيم نجد الشك في تعريفاته المختلفة.

فيتحدث في قصيدة «المتأكدين» عن رمادية الحياة، وعن المنطقة الدافئة بين الصواب المطلق أو الخطأ المطلق، فيقول:

«زي ما يكون الزمن له صوت
بيطلع جوا كل الناس بعد عمر طويل
يقول إن كل الحاجات تحتمل تأويل
وكل شيء وجهة نظر حتى الجنون
والغلط والصح
أكتر من إنهم يكونوا اتنين
والرمادي هو أقدم لون».

وينهي القصيدة بحقيقة ونقد، حقيقة محاولة الإنسان تجنب المصاعب والسير في المنطقة الآمنة حتى ولو كانت وجهته خاطئة، ونقدا لشخصه ولنا في الخوف من المجازفة، فيقول:

«كل يوم بتأكد إننا ضايعين سوا
شاكّين لكن ماشيين
ورا المتأكدين بنقول
جايز شراعهم المقفول
هوّ اللي هيلاقي الهوا
المتأكدين مش أغبيا
على الأقل ماشيين ف اتجاه
المتأكدين
ناس ما ينفعش تسمعنا
المتأكدين
هما اللي بيمشّوا تروس الحياة
واحنا لسه بندوّر على المعنى».

يقف في أبيات أخرى في المنطقة الرمادية، لا يعرف الحقيقة ولا يصدق الشك، باعتبار أن كليهما مساوٍ الآخر، فيقول في قصيدة «الشك»:

«الشك يمكن والحقيقة بجد

لكن محدش فيهم بيغلب حد

زي النهار والليل

والصخرة اللي نحتها السيل

والنهارده اللي بيشرح أمس

في البدء كان الظلام

قبل أمّا تبقى الشمس».

ثمَ يعود وينبهنا إلى أن رحلتك مهما طالت فهي قصيرة، وعليك أن تأخذ حذرك فقد يصل قطارك، دونما تدرك هدفك من ذلك الشك، فتكون الخاسر الأكبر، فيقول في قصيدة «ماذا يدور»:

«قول لكل زمايلك الشكَّاكة لا بد يحترسوا
الحياة رهان كبير
والعدم رهان خطر
لازم تصدَّق في كلام الأثر
وف قلب الإنسانية اللي اتعصر علشان
يوصفلك الجنة والصراط والنار
يوصفلك البير اللي ملُهش قرار
معنى الوجود ومعنى الخير».

في جعبة مصطفى إبراهيم الكثير يا صديقي، مما يستحق التفتيش وراءه، لاكتشافه أولاً واكتشاف ذاتك ثانيًا.

إخلاء مسؤولية: المحتوى في قسم الآراء والمساهمات لا يعبر عن وجهة نظر الموقع وإنما يمثل وجهة نظر صاحبه فقط، ولا يتحمل الموقع أي مسؤولية تجاه نشره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى