آراء ومساهمات

وسام سعيد يكتب: الفاجر الرائع.. «عادل أدهم»

هنا وفي تلك المنطقة يكمن توهج هذا الرجل.. ويضع كل معادلاته الصعبة…

بين شخصية «عزيز» في «حافية على جسر من الذهب» وشخصية «منصور الشبلي» فتوة العطوف في «الشيطان يعظ» تختبئ الموهبة المفرطة، وتتجلى عبقرية الأداء خلف بصمة صوت فريدة يمكنك سماعها وأنت بين النوم واليقظة لتجزم فوراً أن المتحدث هو النجم «عادل أدهم».

وإذا كان الحديث عن هذا الفنان في حد ذاته أمر متكرر وقديم ولا جديد فيه، فإن التنقيب وراء كنوز وخفايا سينما السبعينيات والثمانينيات، لا زال معيناً لا ينضب، ومرجعية ممتعة، وتراثاً لا يتكرر يضمن لنا ولكل من يتغذون على «النوستالجيا» مداداً لا ينقطع مهما بحثنا ودققنا.

فمشاهد سينما 70 و80 لديه ذاكرة من نوع خاص، تكونت من تعلقه بمشاهد محورية أجاد فنانوها ومخرجوها، فنقشوا على حجر صوان داخل جيل كامل تربى على سهرة الفيلم العربى والجلوس أمام فيلم «الظهيرة» وقت تناول الغداء.

واسأل أحدهم مثلاً: هل سمعت عن مشهد «الفينالة» في «سواق الأتوبيس» سيجيبك فوراً بقوله: «ياولاد الكلب». فهى أعمال خالدة رسمها صانعوها بالكلمة والحرف والموسيقي والملابس ونبرة الصوت.

باختصار.. عملقة «عادل أدهم» أكبر من الحديث عنها في سطور، لكن تخصيص البحث عن متعة مشاهدته خلف دورين تحديداً، هو اغتراف من بحر وليس محاولة لحصر إبداعه، أو التركيز على مناطق تميز دون غيرها. لذلك فإن شخصيتي «عزيز» و«الشبلي» بكل إكسسواراتهما، رسخا في أذهان محبيه، وأغلق بهما منطقة «الشرير» في السينما المصرية ليصعب الطريق على من بعده في خلق شرير يعشقه الجمهور في كلامه وضحكاته وإيفيهاته.

عزيز

قولاً واحداً، يصل الفنان لقمة نجاحه حين يحجز مكاناً في ذاكرة المشاهدين والنقاد، وشخصية «عزيز» في فيلم «حافية على جسر من الذهب» لم تكن فقط محور الأحداث في الفيلم، ولكنها العنصر الأكثر إبهاراً، والصوت الأعلى منذ لحظة ظهوره في مشهده الأول وهو يدخل صالة الملهى الليلي وسط حراسته الخاصة، إلى لحظة امتلاء فمه بالدم والخمر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد إطلاق النار عليه.

عزيز… اسم لا ينسى في تاريخ شخصيات السينما المصرية، لأنه قالها بنبرة كبرياء مختلفة: «أنا مش بني آدم …أنا عزيز»، وأظن بل أكاد أجزم أن هذه العبارة تحديداً من بنات أفكار «عادل أدهم» نفسه.

رسم العبقرى خطوط هذه الشخصية باقتدار يليق بجنونه الفني، بدءاً من شكله وملابسه «البالطو والنظارة السميكة» حتى لزماته وعباراته الشهيرة مثل : «يا قطة»… «جاب منين الفلوس الصرصار دا».. «فيه ناس ولاد ناس، وفيه ناس ولاد ستين كلب» «أستاذ أحمد… انت صحيح ممثل بارع… بس مش على عزيز».

وفي مشهد غير معتاد، وحالة مرضية غير مألوفة، أراد التعبير عن خضوع كامل للشر والجبروت تحت أقدام المرأة التي يهواها، فأذعن لكل مطالب «كاميليا» بطلة الفيلم، وليبرهن على ذلك صنع من حذائها كأساً وقام بالشرب منه. ولعله أيضاً فاجأ المخرج عاطف سالم والمصورين بمشهد غير متفق عليه، وقد يبدو هذا من نظرات واندهاش «ميرڤت أمين».

نظرات وجهه الحانية الرقيقة حين حذرته البطلة في هذه السهرة من احتمال وجود سم في الكأس الذي قدمته له، فرد ببرود غريب وسلام داخلى : «مش انت اللي تعملي كده يا قطة… وبعدين كنت هاعرف».

مات عادل أدهم، وعاشت شخصية «عزيز» المعادل الموضوعى لأي رجل سلطة يستخدم نفوذه في تسهيل نزواته وتنفيذ شهواته.

منصور الشبلي

وبنفس البراعة والجنون استمتع «عادل أدهم» وأمتعنا معه حين جسد شخصية فتوة العطوف «منصور الشبلي» في فيلم «الشيطان يعظ»، فكان مخيفاً فظاً سادياً ولكن بأسلوب آخر.

«الشبلي» بلطجى من بلطجية «بولاق»، لا تعرف المروءة ولا الشهامة طريقاً لقلبه أو عقله، يفهم ويعي جيداً كيف يكسر أنف سيده ومعلمه القديم «الديناري» «فريد شوقي»، ولكن بطريقته الخاصة وأسلوبه الصفيق غير الرحيم.

منطقة الروعة في شخصية «الشبلي» هي أنه جعلك تشعر وكأنك وسط ملائكة، وأجبرك على حب «الدينارى» وهو أيضاً بلطجى يأكل ويعيش على خوف الناس لا يقل عن «الشبلي» وضاعة وحقارة.

لم يدع «عادل أدهم» لنور الشريف أو فريد شوقى فرصة للتنافس، حيث حسمها منذ طلته الأولى على الشاشة وفي فمه الشيشة وملامح وجهه تزداد فهماً لخوف «شطا الحجري» أمامه، حتى تجرأ يوماً وأعلنها وقالها: «طب ولو أنا قلتلك تطلقها؟!!».

«الشبلي» وهو يموت ويُذبح طعناً على يد «شطا» في آخر الفيلم، جعلك غير مصدقاً أن هذا الشرير يمكن أن يقهره أحد، فهو في معركته تلك نال من جسد غريمه حتى كاد أن يصفى دمه، وامتلك زمام الاستفزاز حين سخر منه ملوحاً بخنجره :«شعر ولا دقن يا روح أمك؟!»

«الشبلي» وصل لدرجة «فاجر» باقتدار وبراعة حين وضع «عادل أدهم» بصمته وهو يغتصب البطلة «نبيلة عبيد» أمام زوجها، ووضع طرف الجلابية في فمه وقبلها نطق بعبارة خالدة في قاموس «الصياعة»: «تعالى يا قشطة»!!

طوال الوقت حرص «عادل أدهم» أن يسجل لنفسه صوراً سينمائية لا تنسى، فمثلاً لو قمت بعمل «بحث» على Google لصور عادل أدهم ستجد إحدى صوره الشهيرة وهو يمسك بالنبوت الصغير الذى أخذه عنوة من «شطا» ويضعه خلف رقبته وبين ذراعيه، وهى لقطة ترسم السطوة والهيمنة ويحلم بها كل فتوات وبلطجة بولاق وهؤلاء هم جمهور «الترسو» شركاء النجاح لأى فنان.

وأخيراً … هذا فيض من غيض في تاريخ فنان محموم بالتمثيل ومريض بالإبداع.

إخلاء مسؤولية: المحتوى في قسم الآراء والمساهمات لا يعبر عن وجهة نظر الموقع وإنما يمثل وجهة نظر صاحبه فقط، ولا يتحمل الموقع أي مسؤولية تجاه نشره.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى