ظل سلاطين المماليك يحكمون مصر طيلة قرنين ونصف القرن من الزمان، ومن بين هؤلاء السلاطين سلطان أتاه الملك وهو في التاسعة من عمره، هل تعلم من هو؟ إنه السلطان المملوك الناصر محمد بن قلاوون.
هو واحد من أهم سلاطين المماليك، حكم مصر طيلة 43 عاما، تقلبت فيها البلاد بين الأطماع، والدسائس، والهزائم والانتصارات، وتأرجح العرش من تحته بسبب المؤامرات، ولكنه سرعان ما استعاد ملكه وعلت الهتافات له في كل أرجاء البلاد، فدعونا نتعرف إلى مقتطفات من حياة هذا السلطان.
حياته ونشأته
هو السلطان محمد الناصر بن السلطان المنصور بن قلاوون بن سيف الـدين الصالحي يرجع أصله إلى الأتراك، وقد جلب والده إلى مصر وهو صغير اشتراه الأمير علاء الدين أحد مماليك الملك العادل الأيوبي بـ1000 دينار لذلك عرف بقلاوون الألفي (أعيان العصر وأعوان النصر، للصفدي، ج 5)، كما لقب بألقاب أخرى منها “أبو المعالي” و”أبو الفتح”.
ولد في يوم السبت، السادس 16 من محرم، سنة 684 هـ، بقلعة الجبل من أم مغولية هي الأميرة (أشلون خاتون)، وكان يعاني عرجا خفيفا في إحدى قدميه، وبعد 5 سنوات من مولده خرج أبوه لتأديب الصليبيين في (عكا) ففاجأه الموت وهو على أعتاب حدود مصر سنة 689 هـ، فغسل وكفن ودفن تحت القبة العظيمة.
وحُرم الناصر محمد من أبيه وهو صغير، وفى اليوم التالي لموت والده نودي بأخيه (الأشرف خليل) سلطانا على البلاد ولم تدم مدة حكمه 3 أعوام، فقد خرج ذات يوم للصيد فانقض عليه بعض الأمراء وقتلوه لاستهزائه بهم (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقـاهرة، بـن تغري بردي، ج 8)
تولي السلطان الناصر محمد بن قلاوون الحكم
مرت فترات حكمه بـ3 مراحل:
المرحلة الأولى
كان محمد بن قلاوون صغيرا عندما تولى حكم مصر لم يتجاوز التاسعة من عمره، بعد مقتل أخيه اختير الأمير كتبغا نائبا للسلطنة، والأمير سنجر الشجاعي وزيرا، فكان أول عمـل قام به كتبغا، القبض على قاتلي أخي السلطان، والأَمر بقطع أيديهم وتسميرهم والطوافُ بهم حتى ماتوا.
ولكن سرعان ما اختلف الأمير كتبغا مع الأمير سنجر فقرر الأول قتل الثاني، بعد أن استقر لـكتبغا الأمر حاول الانفراد بحكم مصر وخاطب الخليفة العباسي في عدم أهلية محمد بن قلاوون، وأن من مصلحة البلاد خلعه من منصبه فاقتنع الخليفة بوجهة نظر كتبغا، وبالفعل تولى الأخير حكم البلاد بعد عام من تولي الناصر محمد بن قلاوون الحكم، وعين كتبغا صاحبه (لاجين المنصـوري) نائبا له ولسوء حظهما أن قلة ماء نهر النيل وتناقص فيضانه أدت إلى ارتفاع الأسعار وانتشرت الأمراض وقلت المزروعات، وهلك أكثر من نصف سكان القاهرة، حتى إن الناس كانت تدفن في مجموعات كبيرة بغير غسل أو كفن.
حاول السلطان كتبغا السيطرة على الأمر لكن الناس عدّته نذير الشؤم، والغريب أن صديقه ونائبه لاجين قرر انتهاز الفرصة وتآمر على كتبغا ونجح واستأثر بالحكم، ويقال إن السلطان المملوك لاجين المنصـوري هو زوج أخت السلطان الناصر محمد بن قلاوون، أحبه الناس لانخفاض الأسعار ووفرة القمح في عهده، وكعادة المماليك اختلفوا مع سلطانهم، فقرروا قتله وهو يصلي العشاء بعد حكم دام عامين.
المرحلة الثانية
شاعت الفتن في البلاد بعد مقتل الأمير لاجين المنصـوري، واستقر رأي الخليفة العباسي على ضرورة عودة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وكان عمره وقتها 14 عاما، وبالفعل دخل القلعة مقر الحكم في موكب مهيب، ولسوء حظه وصلته الأخبار بأن التتار تهدد بلاد الشام فقام بتجهيز الجيش وزحف إلى حمص.
يذكر لنا ابن إياس في بدائع الزهور أن جيش السلطان التقى بالتتار في مكان يعرف بسلمية (قرب مدينة بعلبك)، وكان بينهمـا وقعة عظيمة، “وقعة وادي الخزندار” وآخر الأمر انكسر عسكر السلطان، وهرب الملك الناصر، ونهب التتار ما نهبوا من عسكر السلطان، رجع السلطان إلى الديار يجر أذيال الهزيمة، لكنه عزم على تجهيز الجيش مرة أخرى وخرج السلطان لملاقاة التتار في مرج الصفّر بدمشق وكتب له النصر وانكسرت شوكة التتار.
لكن السلطان محمد بن قلاوون لم ينعم بمكاسب النصر فهو ما زال صغيرا وأمراء المماليك يتحكمون فيه حتى في مأكله وملبسه، حتى ضاق السلطان ذرعا من هذه التصرفات، واتخذ قرار التنحي عن الحكم سنة 708 هـ، حيث أشاع أنه يريد الحـج واتجه إلى الكرك، وأقام فيها، وأرسل للأمراء في مصر بإعفائه من السلطة، ووضع أمراء المماليك في مأزق واتفقوا على تولي الأمير بيبرس الجاشنكيز الحكم.
المرحلة الثالثة
كان أمراء الشام يلتفون حول الحاكم الشرعي للبلاد، واضطربت أحوال البلاد فضاق الناس بالمظفر بيبرس وقل منسوب نهر النيل وارتفعت الأسعار وتدهور الاقتصاد، فبدأ الناس يطالبون بعودة الناصر ابن قلاوون، ويتغنون بالأهازيج التي كان منها: “جيبوا لنا الأعرج، ييجي الما ويدحرج”.
فخلع بيبرس نفسه من السلطنة، وهكذا عاد العرش للناصر للمرة الثالثة وعاد إلى الديار في احتفالات مهيبة وظل سنوات يعمل على القضاء على الطامعين في حكمه، ولما استقر له الأمر ظل قرابة 32 عاما في إعمار البلاد وعمل على تطوير صناعة السكر والنسيج في الإسكندرية، كما عمل على رد الجميل للشعب فأقام العدل، وحرص على منع استبداد المماليك.
وفاة الناصر محمد بن قلاوون
كانت وفاة ابن السلطان (أنوك) بدية النهاية، فقد أحب ابنه حبا شديدا ومرض بعد وفاة ولده وفي ليلة الخميس 21 من شهر ذي الحجة سنة 741 هـ، لقي السلطان ربه ودفن بجوار والده في القبة المنصورية.