ثقافة ومعرفة

الإنفلونزا.. وكيف تحول فيروس قاتل إلى مجرد “نزلة برد”؟

قبل أربعينيات القرن الماضي، اعتبرت الإنفلونزا جائحةً، وفيروسًا قاتلًا بإمكانه إنهاء حياة البشر، قبل أن تعمل منظمة الصحة العالمية مع مختلف الدول على تحديد السلالات ومراقبة علامات هذا الوباء، للسيطرة عليه، فكيف نجحت في ذلك؟

المرض المتوطن

قبل الإجابة عن الأسئلة أعلاه، يجب أولًا تعريف المرض المتوطن -الذي تندرج الإنفلونزا تحته- وهي مجموعة الأمراض التي يتعايش البشر معها، بعد فترة من الزمن.

طبقًا لرينيه ناجيرا، عالم الأوبئة، يستخدم الأطباء مصطلح “متوطن” للإشارة إلى الأمراض التي تنتشر في مكان ما في فترة زمنية معينة، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال اختفاء المرض، لكن يعني قدرة الأطباء على احتواء أضراره.

كما ذكرنا لا تعني كلمة “أمراض متوطنة” أن المرض لم يعد ضارًا، فمثلًا؛ الملاريا والسل والإنفلونزا كلها أمراض خطيرة، قد تنهي حياة بعض البشر.

لذلك، منذ الأربعينيات من القرن الماضي، قامت الدول ببناء شبكات صحية دولية قوية تحدد سلالات الإنفلونزا من أجل إبقائها تحت السيطرة، وتجنب نوع الدمار الذي حدث خلال جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918.

الكشف المُبكر عن الإنفلونزا

الإنفلونزا
جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918.

في عام 1946، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء مركز الأمراض المُعدية (CDC)، والذي تحوَّل بعد ذلك لما يعرف باسم “مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وكان السبب في هذه الخطوة هو منع انتشار الملاريا.

بعد عامين، ظهر للعالم ما يعرف بـ”منظمة الصحة العالمية” التي نص دستورها على أن الحكومات هي المسؤول الأول والأساسي عن صحة شعوبها، بالتالي، كان شغل المنظمة الشاغل في هذه الفترة هو مرض الإنفلونزا، الذي قتل نحو 50 مليون شخص منذ 1918.

في عام 1952، أنشأت منظمة الصحة العالمية النظام العالمي لمراقبة الإنفلونزا والاستجابة لها، من أجل جمع بيانات من مختلف البلدان وتنسيق الجهود العالمية لمكافحة المرض، بمساعدة من مراكز المراقبة الأمريكية المنتشرة في عديد بلدان العالم.

بدايةً، بحث البرنامج التابع لمنظمة الصحة العالمية عن علامات وأعراض الإنفلونزا والارتفاعات الواضحة في الحالات، خاصةً وأن مسألة إنتاج لقاح مضاد كانت معقدة للغاية، بسبب تحوُّر المرض، وظهور أنواع جديدة من الإنفلونزا، التي لا يمكن للقاحات المتاحة وقتئذٍ مقاومتها.

بعد جائحة عام 1957، سعى الدكتور “موريس هيلمان” لمحاولة تدارك الموقف المعقد، حيث أنهت هذه الموجة حياة نحو مليون شخص حول العالم على أقل تقدير، عبر تطويره 40 لقاحا مختلفا للإنفلونزا، قبل أن يُمنح الجائزة الوطنية للعلوم، تقديرًا لمجهوداته، لكن الأهم؛ كان حجم المعلومات التي جمعها هيلمان، والتي ساعدت صناع اللقاحات في تطوير لقاحات مختلفة مناسبة لعلاج سلالات الفيروس المختلفة.

اقرأ أيضًا: متلازمة مونخهاوزن.. وكيف يتحول مجرد ادعاء المرض إلى مرض خطير؟

 لقاح مناسب للعالم

خلال السبعينيات والثمانينيات، بدأ العلماء في فهم وتحليل فيروس الإنفلونزا بشكل أفضل، حيث فطنوا إلى حقيقة ظهور سلالات فيروسية معينة أثناء فترات موسمية بعينها، بالتالي، لا بد وأن تستهدف اللقاحات هذه السلالات تحديدًا لضمان الفعالية.

وطبقًا لأحد مديري منظمة الصحة العالمية، في عام 1973، قدمت المنظمة أول توصية موثقة بشأن السلالات التي يجب أن تستهدفها لقاحات الإنفلونزا الجديدة.

مجرد “نزلة برد”

الإنفلونزا
منظمة الصحة العالمية (WHO).

في وقتنا الحالي، لا يحمل وقع كلمة “الإنفلونزا” وقعًا مخيفًا على أذن المتلقي، على عكس عقودٍ سابقة، حيث تحوّل فيروس قاتل إلى مجرّد “دور برد” تستغرق أعراضه عدة أيام ثم تزول، ودون شكٍ، كان هذا التحوُّل نتيجة تراكمات وأحداث عديدة، حيث لا يمكن اختزاله في لحظة معينة، أو حدثٍ محدد.

ومن أهم هذه اللحظات، كان القرار الدولي في 2007، الذي منح منظمة الصحة العالمية مزيدًا من الصلاحيات، لإخبار البلدان المتعاونة بلقاحات الإنفلونزا التي يجب أن توزعها ذلك العام بناءً على السلالات المنتشرة، وأيضًا ما يجب فعله إذا اكتشفت منظمة الصحة العالمية جائحة إنفلونزا متنامية، والإجراءات اللازمة لتلافي أضرارها، مثل زيادة إنتاج اللقاحات وفرض قيود السفر، إلى آخره من التوصيات.

يُعتقد أن تفشي فيروس (H1N1) عام 2009، كان الاختبار الأول لهذه اللوائح الصحية الدولية، فعلى الرغم من ضحايا الفيروس التي تتراوح أعدادها من 100 ألف إلى 500 ألف إنسان، ساهمت أنظمة الاكتشاف المبكر واللقاحات في الحد من عدد الضحايا.

تكرر الأمر عام 2019، عندما ضربت جائحة كورونا العالم، الذي عاش قرابة العامين في رعب حقيقي، قبل أن يتم التوصُّل لمجموعة من اللقاحات التي ساعدت في تخفيض عدد المصابين والضحايا مقارنةً بالوضع عند بدء الجائحة.

في النهاية، أثبت التاريخ أنّ التعامل مع الإنفلونزا والأمراض المتحورة عنها يظل مرهونًا بالوقت، وبمدى التزام الجميع بالتوصيات والإجراءات الصادرة عن الجهات الصحية المختصة، والتي إذا ما طبقت بعناية، فقد يتحول مرض قاتل إلى مجرد نزلة برد يمكن التعايش معها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى