وضعت الموضة السريعة المستهلكين بجميع أنحاء العالم أمام معضلة حقيقية، فعلى الرغم من وفرة المنتجات بأحدث الصيحات داخل المتاجر بأسرع وقتٍ ممكن وبأزهد الأثمان على عكس أزمنة سابقة، إلا أن السرعة والعصرية جلبت معها عواقب بيئية وأخلاقية سلبية.
ما هي الموضة السريعة؟
الموضة السريعة هي مصطلح مُعاصر تم استحداثه بوقتٍ قريب، ويستخدم للتعبير عن تجارة التجزئة الخاصة بالأزياء، للتعبير عن التصميمات الجديدة التي تتجه مباشرة من منصات الأزياء إلى المستخدمين بأقصر وقتٍ ممكن، كي تواكب توجهات الموضة الخاصة بالفترة نفسها.
ظهرت الموضة السريعة تلبية لما يعرف بـ«الاستجابة السريعة»/ «Quick Response»، وهو مصطلح نشأ بالولايات المتحدة الأمريكية بفترة الثمانينيات من القرن الماضي، وبلغ ذروته بداية القرن الواحد والعشرين، والذي تدور فكرته حول تلبية رغبات المستهلك بأسرع وقت، لتصبح بذلك الاستجابة السريعة هي النموذج المُتبع بأسواق الأزياء.
وارتبط مفهوم الموضة السريعة أيضًا بمفهوم “الإتاحة”، بمعنى أن توّفر شركات الأزياء للمستهلك ما يمكنه امتلاكه، فأصبحت الموضة المتاحة مع مرور الوقت سوقا ضخما من التصميمات الجديدة بأسعار رخيصة قد تكون في متناول الجميع.
ما لا يعرفه المستهلك
تكمُن المشكلة الرئيسية في التعاطي مع فكرة الموضة السريعة هي وجهة النظر التي ينظُر من خلالها أي شخص للفكرة، فأي مستخدم أو مستهلك دوري، يرى فيها فكرة عبقرية، جعلت المستهلك يحصُد أكبر قدر من المميزات في وقتٍ قصير، حيث لم يعد يحتاج إلى الصبر لسنوات حتى يستطيع امتلاك أزياء قيّمة، نظرًا لأن على عكس الموضة السريعة، كانت “الموضة البطيئة” أعلى سعرًا وأقل تحديثًا ونشرًا عبر الأسواق.
على الجانب الآخر، شرح كاميار شيرفاني مقدم، عالم الاستدامة بجامعة ديكين الأسترالية، أن المستهلك عادةً لا يعلم ما يدور خلف الكواليس، لكنه كمختص، يرى أن الموضة السريعة تنتج كمًا هائلًا من النفايات والأضرار البيئية، وهو الأمر الذي تغض عنه العلامات التجارية ومنشآت التصنيع الطرف في مقابل حصد المكاسب المادية الضخمة.
ويضيف مُقدم: “الشركات التي تأمل في صنع الملابس بأرخص سعر ممكن للمشترين في البلدان الغنية تستعين بدول ذات عمالة بدخل منخفض، لإنتاج معظم المنسوجات والقيام بعمليات المعالجة، مستغلة أن هذه الدول الفقيرة لديها القليل من قوانين التصنيع والعمل”.
بالإضافة إلى ذلك؛ تظل أكبر العوائق في تعامل الباحثين مع توابع انتشار الموضة السريعة هي عدم شفافية العلامات التجارية أو المصانع التي تنتج معظم الأزياء وتنشرها حول العالم، حيث إن البروتوكولات الخاصة بعمليات مثل الصبغ والإنتاج والتفكيك تظل أسرارًا تجارية وتتردد الشركات المعنية في توضيح تفاصيلها علنًا، وتحديدًا تلك الخاصة بمقدار المكونات المستخدمة في المنتجات، وهو ما يتعارض مع مبدأ الشفافية التجارية.
أضرار الموضة السريعة
للأسباب التي ذُكرت أعلاه؛ كثّف الباحثون بمجالات الموضة تحقيقاتهم متخطين معظم العوائق التي واجهتهم، لمحاولة الوصول إلى حقيقة الأضرار التي تتسبب بها الموضة السريعة للبشر وللبيئة على حد سواء، حيث تضمنت قائمة الأضرار كل شيء متعلق بالعملية الإنتاج، بداية من تجهيز المنسوجات، وصولًا إلى التخلُّص من الأزياء في مكبّات النفايات.
تصنيع الأزياء يسبب التلوث
يعد القُطن أحد أهم المواد الخام التي تدخُل في صناعة الملابس، إن لم يكن بالفعل أهمها، وكما يعلم الجميع، تتطلب زراعة القطن رش كميات كبيرة من مبيدات الآفات والأسمدة الصناعية، التي تتدفق داخل الأنهار والبحيرات، فتؤثر بدورها على الحياة البرية نظرًا لسُميتها.
وبينما تلجأ بعض المصانع لاستخدام «البوليستر» كبديل للقطن في صناعة الملابس، تطفو على السطح أزمة جديدة، وهي أن البوليستر يستخرج من الوقود الأحفوري، والذي تتحلل أليافه ببطء شديد، ما يجعلها مسؤولة بشكل جزئي عن تسرب المواد البلاستيكية الدقيقة إلى المسطحات المائية حيث مكبّات النفايات الضخمة.
كذلك تستخدم المصانع الأصباغ والأملاح وبعض المركبات الأخرى أثناء معالجتها للأقمشة وتحويلها لأشياء يمكن ارتداؤها، وغالبًا ما تستغرق العملية عدة جولات من الغسيل في المتوسط، إهدار 53 جالونًا من الماء من أجل معالجة رطلين من المنسوجات فقط.
ظروف العمالة الصعبة
لربما تضع خطوط إنتاج الموضة السريعة المختصين أمام حقيقة أخرى غير قابلة للتشكيك وهي لا آدمية المواقع التي يكون فيها عمالة تصنيع الملابس، لأنهم لا يتقاضون أجورًا مناسبة من جهة، ومن جهة أخرى تميل مقرات العمل أيضًا إلى أن تكون ذات معايير سلامة منخفضة أو مخاطر مهنية كبيرة.
يتعرض الموظفون، ومعظمهم من النساء، لجميع المواد الكيميائية المستخدمة في عملية التصنيع، وهي إضافات أظهر تحليل مياه الصرف الصحي أنها تحتوي على الزرنيخ والكروم والزنك، حيث يمكن أن يؤدي استنشاق الغبار الناتج عنها، إلى ظهور أعراض مشابهة لأعراض الربو وأنواع من التهاب الرئة الذي يعاني منه المدخنون في كثير من الأحيان.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل إنه بالإضافة للظروف الصحية والمادية الصعبة للعمالة التي غالبًا تكون مكونة من موظفين لدول فقيرة، فقد يضطر العمال للتعايش مع إصابات العمل، حيث أظهرت دراسة خرجت من دولة إثيوبيا أن نحو 40% من العمال بقطاع الأزياء قد يتعرضون على الأقل لإصابة عمل واحدة خلال العام، نجمت عن إتلاف آلة تصنيع لأيديهم أو أعينهم.
هل الامتناع عن الموضة السريعة حل منطقي؟
لعل البعض يرى أن حل مشاكل الموضة السريعة هو الانسحاب تمامًا، فقط لا تشتر ملابس مصنوعة على هذا النحو، لكن هذا ليس حلاً للجميع، فبدون أي شك نحتاج إلى الإقرار بأنه لا يمكن للجميع دفع المزيد مقابل ملابسهم، على الرغم من أنه يمكن للجميع محاولة التسوق باعتدال والانتباه إلى مقدار ما يستهلكونه.
لكن الأهم هو ضرورة مناقشة أي علامة تجارية تروج لكونها صديقة للبيئة ومطالبتها (عبر المستهلكين) بتوضيح آلية التصنيع الخاصة بها كورقة ضغط، حيث إن هذه العلامات تزعُم حرصها على دعم البيئة وتوفير بيئة مثالية للموظفين، وهم مُحقون في ذلك الزعم، لكن الخدعة هي أن ذلك قد يحدُث داخل مقرات البيع بالتجزئة وليس خطوط الإنتاج والنقل، التي تعتبر أساس المشكلة، التي ينتج عنها إهدار مصادر الطاقة وزيادة التلوث وتهديد حياة العمالة.
أخيرًا يرى المتخصصون بمراقبة عمليات إنتاج الموضة السريعة أنه حتى وإن كانت الفكرة ممتازة بالنسبة للمستهلكين، إلا أنه ما زالت هنالك حاجة ماسّة لتأطير عمليات الإنتاج حتى يتم تفادي الكوارث التي تحدُث بعيدًا عن أعين المستهلك، وتلحق الضرر بملايين البشر الآخرين.