الزمن في دنيا السينمائيين شديد النسبية.. والعمر لديهم لا يقاس بسنوات الخبرة وعدد الأعمال الفنية بقدر ما يقاس بقوة المشاركة وفاعلية الحضور في عمل واحد، أو لقطة واحدة، أو عبارة سينمائية على لسان مؤديها تدخله التاريخ.
فالصورة الذهنية الأولى مثلا للقدير الراحل «ستيفان روستي»، حينما تتذكره لأول وهلة ستتذكر تباعا الحوار الذى دار بينه وبين فردوس محمد «تسمحيلي يا هانم بالرقصة دي؟.. ما ترقص يا خويا حد حايشك .. كده … طب ثانية واحدة أتحزم وأجيلك»، لأنها عبارة خلدته ورسخت في ذهن المشاهد فصارت تزن وحدها تاريخه السينمائي بغض النظر عن بقية أعماله ومشاركاته.
ولعل هذه الحالة تتوافق على الأغلب مع نجوم الصف الثاني وليس «السوبر ستارز»، حيث يضعون كل ثقلهم الفني وخبراتهم وقدرتهم على الإتقان في فرصة واحدة ربما لا تسنح لهم ثانية، هذه الفرصة قد تكون دورا واحدا أو مشهدا أو حتى مجرد «إيفيه» ولكنه كصاروخ بعيد المدى يصل، ويلتصق في ذهن وذاكرة المشاهد، ويصبح ثابتا في سجل «القلش» المصري وقاموس المصريين الساخر حيال أزمات حياتهم وربما نوائبهم السياسية.
المعلم جابر الشرقاوي
دور صغير عمره الزمني لا يتجاوز العشر دقائق مجمعة للفنان الراحل سامي سرحان، قام به ببراعة واقتدار ورسم ملامحه بحرفية شديدة كأنما وضع كل خبراته وطاقاته الكوميدية في هذا الدور، إنه المعلم «جابر الشرقاوى» جد محيي الشرقاوي، وكبير العائلة وزعيم عصابتهم، في فيلم «فول الصين العظيم» للنجم محمد هنيدي.
وبما أن نجومية «هنيدي» وقدراته الكوميدية ونجاح الفيلم من عدمه ليس هو مجال حديثنا في هذه السطور، فإن ما أظهره «سامي سرحان» من خفة ظل، وطلاقة في أداء الدور، وسلاسة في خروج الإيفيه نقله من مجرد «سنيد» لمحمد هنيدي إلى مشارك فعلي وبطل ثان في الثلث الأول من الفيلم، للدرجة التى جعلت كثيرين يدخلون على Youtube ويشاهدون نصف الساعة الأولى من الفيلم تحديدا رغم أن العمل كله من أعمال «هنيدي» الناجحة والقوية والمليئة بعناصر الإضحاك.
عدة عوامل جعلت سامي سرحان في دور «جابر الشرقاوي» ليس مجرد سنيد أو فارش للإيفيهات، منها ملامح وجهه وشكل الشخصية المليء بالهيبة والجبروت كزعيم مخضرم وعتيق في الإجرام، ثم خروج الإيفيه منه بما لا يتلاءم مع هذه الطلة المهيبة.
الصين حلوة
وربما كان اعتماده على أسلوبه الخاص في العبارات الخاطفة السريعة التي تميزه كـ «كوميديان»، أحد تلك العناصر، حتى إنه حجز لنفسه عبارة ثابتة في سجل «القلش» الدارج في الشارع الشعبي حين قال لهنيدي وهو يشكو خوفه من فكرة السفر عبارة: «الصين حلوة» وانقلبت الطاولة وتحول هنيدي لمن يدقق في هذا المشهد لسنيد لسامي سرحان وليس العكس، حين دار الحوار بين أمه وزوج أمه وعاد لسامى سرحان حين خاف «هنيدي» من الطائرة ليكرر نفس العبارة «الطيارة حلوة» فتستساغ دون ملل!!
ومجرد إشاراته وحركاته وإيماءاته تصديقا على كلام زوج أمه حالة كوميدية تجعل بصرك لا يغادره ثانية واحدة، ناسيا أن بطل الفيلم ونجم الشباك جالس أمامه في هذا المشهد.
وأعتقد أن اختفاء شخصية «الجد» بقية الفيلم لأنه لم يسافر معه إلى الصين، كان من حسن حظ محمد هنيدي وإلا تحول سامي سرحان لشريك هنيدي في بطولة هذا الفيلم، مثلما كان «حسن حسني» شريكا لهاني رمزي في فيلم «غبي منه فيه».
إيفيهات لا تنسى
عودة إلى العشر دقائق التي قام بها الراحل سامي سرحان داخل الفيلم، ستجد أنها كانت رقصة البجعة الأخيرة لهذا الفنان خفيف الظل، حيث كان العمل الأخير له قبل وفاته. فكأنما كان يعرف حين وضع فيه كل قدراته ومنح المشاهد البهجة والضحك بعبارات خفيفة ولكنها لم تنس.
«أنا هابعتك لأمك … فاكر أمك يالا»
«ده مسدس أبوك .. الله يرحمك يا زلطة مات بطلقة غلط طلعت م الماسورة في صدره عدل»
وحينما صرخت سهير الباروني قائلة: ابني حبيبي هيموتوه … رد بكلمة واحدة ولكنها قوية المدى حين قال: إن شاء الله
وعندما سأل «الحرامي» قائلا : «ما عملش معاك أي حاجة ..لا سحب عليك سنجة ولا مطوة ولا رجل كرسي حتى؟!»
وحينما رفض «الحرامي» ضياء الميرغني أن يأخذ المال مقابل التمثيلية التي قام بها على «محيي» رد سريعا: تشكر.. طريق السلامة إنت!!
وحينما سأله أحد أعمام محيي: اقتله يابا .. رد بأسلوبه: مش دلوقت .. بس حضر طربيزة الاجتماعات
سؤال خطير
10 دقائق فقط ليس أكثر، منح فيها الكوميديان الراحل لنفسه المساحة والفرصة لكى ينفرد ببطولة الثلث الأول من الفيلم، قبل سفر «هنيدي» للصين ويبدأ معها الفيلم.
سامي سرحان هو الأخ الأصغر للفنان الكبير الراحل شكري سرحان، واسمه الحقيقي أمين سامى الحسيني سرحان، عمل في المسرح والتلفزيون وله عدة أعمال أقواها وأشهرها دوره في فيلم «الناظر»، ودوره الشهير في فيلم «سوق المتعة».
السؤال: ماذا لو كان سامى سرحان بهذه اللياقة والقوة والإتقان منذ أن بدأ حياته الفنية … إلى أين كان سيصل؟!