رياضة

احتفال مستفز ومراوغة مهينة.. إلى أين نهرب من شرطة كرة القدم؟

إذهب إلى النفق المؤدي لغرف خلع الملابس، احتفل هناك، لقد فزت للتو بمباراة واحدة، إنّها مجرَّد ثلاث نقاط، لقد كنت رائعًا، عدت للسباق على اللقب. احتفل كما شئت وبكل الوسائل، لكن بانضباط، أنا جاد. (الانجليزي چيمي كاراجر، لاعب ليفربول السابق والمحلل التلفزيوني.) 

كان هذا مُلخَّص هجوم نجم الريدز السابق على لاعب أرسنال الإنجليزي «مارتن أوديجارد»، الذي أجرَم حينما قرر أن يحتفل بفوز فريقه بثلاثية على ليفربول على ملعب الإمارات، عن طريق التقاط مجموعة من الصور لمصوِّر الفريق مع الجماهير. 

يبدو غضب كاراجر مُبررًا، فقد خسر فريقه ثلاث نقاط مهمة في سباق الدوري الممتاز، لكنّه قرر فجأة أن يسوق مبررًا ضعيفًا حين بدأ في التعبير عن غضبه من قلة احترام «أوديجارد» لمنافسه، كما زعم. 

ما فعله أوديجارد، هو أنّه قام بالاحتفال رفقة أحد عناصر فريقه، داخل ملعبه، ووسط جماهيره، دون أن يُقحم المنافس في أي شيء، لكن لسبب ما، رأى البعض احتفاله مبالغًا به؛ لأنها مجرَّد مباراة واحدة، لا تستدعي كل ذلك الصخب. 

لكن في الحقيقة، إذا ما قررنا أن ننظُر للصورة الأكبر، قد نجد أن مجموعة من البشر، قد قرروا فيما بينهم أنّ ينزعوا عن هذه اللعبة أهم مميزاتها، وهي البحث عن المتعة، وتحويلها لشيء آخر، أكثر جدّية، أكثر صرامة. والسؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟ 

ضربة البداية

لماذا يُريد الجميع قتل المُتعة؟ (إيان رايت، نجم أرسنال الإنجليزي الأسبق.) 

دعنا ننسى أمر احتفالية لاعب الأرسنال، وسخط نجم ليفربول الأسبق، وأطنان التحليلات والآراء حول قضية «احترام المنافس»، لأن المفاجأة هي أن القصة أعمَق مما يتم تداوله حول المقبول وغير المقبول في كرة القدم، التي كانت ولا زالت ضحية لما يراه الغرب قيَم محافظة، حتى بعدما أضحت صناعة ترفيهية، تهدُف بالتعريف لإمتاع متابعيها. 

في 2018، كتب شاب يدعى «ريان هويتيل» تدوينة بعنوان: دفاعا عن الاستعراض وأهميته لكرة القدم. حكى خلالها تأثُّره بمشاهدة مقاطع مصوَّرة لأمثال «زين الدين زيدان»، «تيري هنري»، «دينيس بيرجكامب»، و«رونالدينهو». عن طريق مشاهدة هؤلاء تعلَّم تقنيات جديدة في التمرير، التصويب وحتى المراوغة، لكن أهم ما علق بذهنه كانت ثقة هؤلاء وهم يهمُّون بتنفيذ أي حركة مُعقَّدة. 

رأى «هويتيل» في نظرات «إيريك كانتونا» المتعالية عقب تسجيله لهدف متعة خاصة، ربما لأنّه افتقد في طفولته لمثل هذه الثقة، فقد كان قصيرًا، لا يجذب الفتيات في عمره، لذا، ربما كان تقليد حركات النجوم الواثقين وسيلته لرفع ثقته بنفسه. 

في إحدى مباريات الناشئين، قام هويتيل بتنفيذ حركة «الشمسية» التي اشتهر بها النيجيري «جاي جاي أوكوشا» بنجاح، قبل أن يُسجِّل فريقه هدفًا رائعًا. وقتئذٍ، أحس بنفس ثقة كانتونا، حين أدار رأسه ناظرًا لجموع الجماهير باختيال، لكن هذا الشعور لم يدُم طويلًا، لأنّ مدربه قام باستبداله على الفور، قبل أنّ يخبره أنّه لن يشترك في أي مباراة قادمة إذا ما قام بمثل تلك المراوغة «غير المحترمة» مرّة أخرى. 

كانت تلك إهانة، لمن أراد أن يراها كذلك فقط، لكنَّها بالنسبة لمُنفِّذ الحركة عمل شاق تم إنجازه بنجاح؛ فلاعب كرة القدم المحترف الذي يراه البعض لا يحترم منافسه لم يفعل ذلك، على العكس تمامًا، فربما أمضى ساعات لإتقان هذه المهارة أو تلك، لإمتاع نفسه أولًا، ثم إمتاع الحضور. 

المتعة هي الأصل في كرة القدم، هكذا يراها «إيان رايت»، أسطورة أرسنال الإنجليزي، الذي تعلَّم بالطريقة الصعبة معنى المُتعة، حيث بدأ مسيرته الرياضية الاحترافية بسنٍ متأخرة، بعد سنوات طفولة ومراهقة صعبة، وفترة وجيزة أمضاها بأحد السجون. لذا، بات حريصًا على إظهار الامتنان لكرة القدم، عبر الاحتفال بصخب مع كل هدف يسجّله، كأي طفل مُتحمِّس. 

كرة القدم في عصر الصوابية السياسية

طبقا للاتحاد الدولي «فيفا»، تتم مُعاقبة اللاعب الذي يقوم بأي إيماءة مُستفزة أو ساخرة ببطاقة صفراء. وبالطبع، يكون ذلك ضروريًا في بعض الحالات لتجنُّب تحويل ملعب المباراة لساحة حرب. لكن من يرسم الخط الفاصل بين ما يُمكن اعتباره مستفز وساخر وبين ما يمكن اعتباره مقبول؟ 

طوال تاريخها، كانت كرة القدم في صراع ما بين أن تكون صناعة وبين كونها لعبة، وجرى العُرف أن يميل الجميع للسلوكيات المُحافظة، إلا في استثناءات نادرة. فمثلًا، نشرت الاتحاد الإنجليزي  بيانًا في عام 1975 لمنع اللاعبين من الاحتفال بالأهداف؛ لأن هذه التصرفات «تشوه سمعة كرة القدم». وفي 1982، ألمَح الاتحاد الدولي إلى ضرورة وقف الاحتفالات المبالغ بها بالأهداف. 

نحن الآن في 2024، حيث انتقلت سلطة تقييم المقبول وغير المقبول لملايين المشجعين حول العالم، ويدعى هؤلاء «شرطة الاحتفالات» أو «شرطة المراوغات»، سمِّهم كما شئت. لكن الأكيد أنّ هذا التقييم عادةً ما يحكمه العُرف. 

بالطبع، ليس الجميع بهذا السوء، ففي عالم يشهد صعودًا صاروخيًا لخطاب «الصوابية السياسية»، نال الكثير من لاعبي كرة القدم المنتمين للأقليات بعض الاهتمام، وهذا هو مربط الفرس. 

الصوابية، أو اللياقة السياسية اصطلاحًا تعني اللغة والسلوكيات والإجراءات التي تهدف إلى تجنُّب الإساءة أو الحرمان لأي مجموعات معينة في المجتمع. وإن كان ذلك صحيحًا، فإرغام برازيلي أو إفريقي على عدم المراوغة أو الاحتفال بطريقة اصطلحت عليها أوروبا أنّها غير لائقة يبدو تمييزًا؛ لأنه عادة يُتبَع بعبارة: قد يكون ذلك لائقًا، لكن في بلادك وليس هنا. 

شرطة كرة القدم

في الواقع، ربما لا يجب أن ندفن رؤوسنا في الرمال، هذه اللعبة، إن بات جائزًا وصفها باللعبة، مع الوقت أصبحت كأي صناعة يتحكَّم رأس المال بها، لا تجد في لحظات المتعة الخالصة سوى استفزاز أو استهتار. 

لأن هذه اللحظات التي يخطفها اللاعب عبر مراوغة تمنحه الشعور الذي أحَس به حين كان طفلًا يداعب كرة في ملعب الصغار، أو احتفال صاخب بعد أن انزاح عنه حمل دقائق مهمة لم تعد مبرر. المُبرر الوحيد للاحتفال، والهدف الوحيد الذي يستحق التدريب هو الفوز باللقب، وتلك رفاهية لا يملكها الجميع. 

في الحقيقة، من يرى في احتفال أوديجارد الذي بدأنا به قصتنا استفزازًا، أو مراوغة أوكوشا إهانة، ليس سوى شخص اضطر أن يعكس غضبه من خلال أخذ كل شيء على محمل الجد، بشكل قد يجعل كرة القدم مباراة تُلعب بين مجموعة من الـ«جيمي كاراجر»، وبالتأكيد لا يصب ذلك في مصلحة الرياضة الأكثر شعبية في العالم. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى