رياضة

كارلو أنشيلوتي.. سوء تفاهم لا ينتهي

أعتقد أن الخطأ الذي يرتكبه مدربو الجيل الجديد هو أنهم يقدمون الكثير من المعلومات للاعبيهم أثناء الحيازة. أعتقد أن مدربي المدرسة القديمة مثلي يفضلون عدم إعطاء الكثير من المعلومات والسماح بحرية الإبداع. 

الإيطالي كارلو أنشيلوتي، المدير الفني لريال مدريد الإسباني. 

جاءت هذه التصريحات على لسان العجوز الإيطالي بعد عدّة أيامٍ من خسارة ثقيلة أمام الجار أتلتيكو مدريد في الدوري الإسباني الممتاز موسم 2023–2024. واللافت في هذه العبارات الواثقة هي اعتداد المدير الفني بذاته، وطريقة فهمه لكرة القدم، على الرغم من كونه محل انتقاد منذ فترة ليست بالقليلة؛ بسبب ما يمكن وصفه بافتقاره للحلول العصرية، حتى وإن كان لا يزال قادرًا على تحقيق الانتصارات. 

في الواقع، الأزمة بين أنشيلوتي والأصوات المنتقدة له ليست سوى سوء تفاهم ضخم؛ من جهته لا يرى كارلو أنّه في حاجة لتغيير طريقته، وعلى الجانب الآخر يريد النقاد والجماهير إشباع رغباتهم عبر وجبات تكتيكية دسمة لم ولن يُقدمها هذا الرجل الذي كسر حاجز الستين بالفعل. 

على كُل حال، يمتلك كارلو وجهة نظرٍ، لا تبدو مُقنعة لكثير من عشاق كرة القدم القائمة على التحكُّم الكامل في عناصر اللعبة، لكنّها بلا شك لا تزال ‑في بعض الأحيان- أكثر أهمية لنجاح فريقه. فما القصة؟ 

 

كرة النخبة 

منذ زمن طويل، لم يعد اللعب لعبًا، وصارت كرة القدم في حاجة إلى تكنوقراطية النظام، وهي مهمة المدير الفنّي، الذي بدوره يجب أن يجد حلولا لمنع الارتجال وفرض الانضباط ورفع مردود لاعبيه للحدود القُصوى. بهذا النَص، نعى الأديب الأوروجواياني إدواردو غاليانو موت المُدرّب واستقبل على مضض ولادة المدير الفني بكرة القدم الحديثة. 

لكن كارلو أنشيلوتي، رجل ينتمي لفئة المدربين لا المديرين الفنيين، يرى الانضباط ضرورة، ومساعدة اللاعبين على الوصول لأفضل مستوياتهم غاية، لكن دون الإصرار على التحكُّم في قرارات لاعبيه، تحديدًا بالكرة. 

كارلو أنشيلوتي

إذا ما قررت التجرُّد قدر المستطاع، وبعد الانتهاء من إلقاء النكات حول سترة الإيطالي السوداء التي لا يستبدلها، ورفعه لحاجبه الأيسر كلما تأزمت المباراة على فريقه، تجِد أن الحقيقة الأبرز هي أنّ الرجُل الذي عفى الزمن على فلسفته الكُروية ليس مُتهما؛ ربما لأنه ليس في حاجة بالأساس لاستبدال أسلوبه بآخر أكثر حداثة. 

بمراجعة مسيرة أنشيلوتي التدريبية، بالفعل نجِد أنّه لم يكن يومًا عنصرًا فاعلًا في أي من الثورات التكتيكية، مثل بيب جوارديولا أو يورجن كلوب، كما لم يخلِق لنفسه هالة مثل جوزيه مورينهو. لكن الأهَم في هذه المسيرة هي أنّه في أغلب فتراته حرص على أن يشرف على تدريب لاعبين يمتلكون جودة عالية، بالتالي كانت البرجماتية، التي تعد أول الدروس التي تُمنح للمدربين الإيطاليين في «الكوفرتشيانو» طريقه للنجاح، وليس عبقريته التكتيكية؛ لأنّه يستغل المتاح لتحقيق غايته، دون أن يجد أي داعٍ لإعادة تعريف نفسه. 

كرة القدم لعبة لاعبين، ليست لعبة مدربين. 

توماس توخيل، المدير الفني لبايرن ميونخ الألماني. 

في كتاب «سوكرنوميكس»، جاء أحد الفصول بعنوان «هل المدرب مهم بالفعل؟»، هذا السؤال الذي يبدو وقحًا للوهلة الأولى، الإجابة عليه تبدو أسهل مما قد تعتقد، لأنّ نجاح عمل أي مؤسسة مرتبط بداهةً بالأفراد الذين يؤدون مختلف المهام، بالتالي اللاعبون أهم بكل تأكيد من المدرب في أغلب الأحيان. 

باختصار، حين يمتلك المدرب لاعبين أفضل من لاعبي الفريق المنافس، فسوف يفوز في 90% من المباريات.  سوف نتركك بضع ثوانٍ لتحاول تخمين هوية قائل العبارة السابقة .. قائلها هو يوهان كرويف، الرجُل الذي يُنظر له كأحد أهم شكّلوا طريقة لعب كرة القدم الحديثة. والمفاجأة الأكبر هي أن أسماء مثل يوليان ناجلسمان، بيب جوارديولا ويورجن كلوب يؤمنون بنفس الفكرة تمامًا. 

كارلو أنشيلوتي.. من أين تؤكل الكتف؟ 

 بالعودة لستينيات القرن الماضي كان متوسط فترة بقاء المدير الفني مدربًا لفريق يلعب بالدرجة الأولى 4 سنوات، وبعد أكثر من نصف قرن أصبح متوسط عمر المدرب داخل فريق واحد أقل من سنتين. بالتالي، أصبح المدير الفني مُهددًا بفقدان وظيفته أكثر من أي وقت مضى. 

 كارلو أنشيلوتي في النهاية موظَّف ‑بالطبع يتقاضى راتبًا يجعلنا نعيد التفكير في وصفه بالموظّف- يأمُل في الاستمرار بعمله أطول فترة ممكنة، بالتالي عليه أن يحرص على بناء علاقات إنسانية جيّدة مع كل العناصر بداية من اللاعبين، وصولًا للإدارة، مرورًا بالجماهير والإعلام. 

هذه القدرة المثالية على التكيُّف تؤتي ثمارها، على سبيل المثال، يصفه لاعبوه بالإنسان الجيد، أو الوالد، وغيرها من الأوصاف التي تعني نجاحه في بناء جسر حقيقي مكنّه من استخراج أفضل ما في نجوم مثل كريستيانو رونالدو، زلاتان إبراهيموفيتش، وتطويع أناهم العالية لمصلحة الفريق. 

كارلو أنشيلوتي

مع ذلك، تظل أبرز نقاط قوة الإيطالي مرتبطة بكونه موظفًا، أو بالأحرى مطيعًا. فقد سبق وعمل مع مجموعة من أقوى رؤساء الأندية في العالم مثل فلورنتينو بيريز، ناصر الخليفي، رومان أبراموفيتش، وسيلفيو بيرلسكوني دون أن يصطدم بأي منهم. 

طبقا للبروفيسور كريس برادي، الذي شارك في كتابة سيرة كارلو أنشيلوتي الذاتية بعنوان: «القيادة الصامتة»، لا يهتَم الإيطالي بموقعه بين أفضل مدربي العالم، بل يجد أن أهم ما يجب أن يشغَل باله هو أن يجعل رئيس النادي سعيدًا. 

بعد أسبوع من وصوله، سألني أنشيلوتي عن الرجل الأهم في إدارة بايرن. هل هو أولي هونيس أم كارل هاينز رومينيجه؟ 

فيليب لام، قائد بايرن ميونخ الألماني السابق. 

سوء التفاهم 

بغض النظر عن أهمية التكتيك من عدمها، وإذا ما قررنا التغاضي عن سجل نجاحات كارلو أنشيلوتي على مدار حقب كروية مختلفة، شهدت خلالها كرة القدم تغيُّرات عديدة، يجب أن نسأل أكثر الأسئلة بداهةً، وهو لماذا تريد الأصوات المنتقدة للإيطالي أن يحاول تغيير جلده؟ 

كارلو أنشيلوتي

في 2016، كتب «تيد ناتسن»، مؤسس شركة «Stats bomb» مقالا بعنوان: كيف يتعلّم المدربون؟ أشار خلاله إلى حقيقة نادرًا ما يتطرّق إليها أحد. ففي حين نجد أن بيب جوارديولا ابنًا مخلصًا لثقافة الاستحواذ الكتالونية، ويورجن كلوب مؤمنًا بمدرسة الضغط، فإن ذلك ليس دليلًا على أن أفكارهما هي الأصَح، لكن لأنّها نتيجة للفترة التي حصلّوا خلالها أكبر قدر من معرفتهما التدريبية. 

يرى ناتسن، أن ضغط وظيفة المدير الفني للأندية الكبرى يجعل المدرب غير قادر على تغيير فلسفته الكروية، لأنّه لا يمتلك وقتا كافيا لتعلُّم أي شيء جديد، كما أنّه يعمل في بيئة لا تمنحه رفاهية التجربة من الأساس. 

بالعودة لكارلو أنشيلوتي، قد يُفسِّر هذا الطرح عدم اكتراثه بالانتقادات التي توجّه له، لأنه لن يبدأ في تعلُّم أي شيء جديد بعدما كسر حاجز الستين، وربما كذلك قد يُفسر النظر إليه كرجل من عصر بائد، لأن كرة القدم بالفعل أصبحت أكثر تعقيدًا مقارنة بالزمن الذي بدأ فيه كارلو بوضع نهجه التدريبي. 

المصادر: 

1- كارلو أنشيلوتي: أنا مدرب من المدرسة القديمة 

2- أنشيلوتي: أعظم مدرب مجهول في كرة القدم؟ 

3- كتاب «سوكرنوميكس»

4- ما هو متوسط مدة بقاء المدير الفني في منصبه؟

5- يوليان ناجلسمان: كرة القدم 30% تكتيك و70% كفاءة اجتماعية 

6- تصريحات مؤلف سيرة أنشيلوتي الذاتية

7- فيليب لام: أنشيلوتي مدرب فريد من نوعه 

8- تيد ناتسن: كيف يتعلم المدربون؟ 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى