رياضة

سوق الانتقالات «التكتيكية».. كيف يتم تقييم أسعار اللاعبين؟

أنفقت أندية كرة القدم خلال سوق الانتقالات الصيفية التي امتدت من يونيو لمطلع سبتمبر 2023 ما يدنو من 5.9 مليار جنيها استرلينيا (7.3 مليار دولار أمريكي). 

ما يجعل هذا الرقم ضخما، هو أنّ أندية كرة القدم لم يسبق لها أن صرفت رقما مشابهًا من قبل، بل أنّ هذا الرقم يُمثِّل زيادة مهولة قدرها 45% مقارنة بصرف الأندية بالموسم الذي سبقه، بل أنّ الأندية في أقصى صور البزخ، صرفَّت 75% فقط من هذا الرقم عام 2019. 

وبغض النظر عن كل تلك الأرقام، ما الذي يجعل انتقالات اللاعبين مكلّفةً لهذا الحد؟ أو بالأحرى ما هي العوامل التي يتحدد على أساسها دفع أندية الكرة لدفع أرقام توازي ميزانيات بعض الدول لاستقطاب مجموعة من الرياضيين؟ 

الإجابة التي لا يعرفها أحد 

دعنا نبدأ بالبديهيات؛ لأن البديهيات توفِّر الوقت والمجهود. والبديهيات تقول أننا نعيش في عالم رأسمالي، سوق مفتوح، يخضع كل من يعيش تحت مظلته لمبدأ العرض والطلب. بالتالي، لا يُمكننا السؤال حول دوافع الأندية لأموال تفوق القيمة التي يضيفها اللاعبين. لكن حتى وإن خضعنا مرغمين، لا بُد وأن أحدهم قد سبق لمَّح، ولو من بعيد، عن تعجُّبه من آليات «تسعير قيم إنتقال اللاعبين»، التي يتضِّح لأي متابع عادي أنّها بعيدة تمامًا عن المنطق. 

هنا لا نقصد الجدلية الشهيرة المتعلَّقة بقيمة اللاعب للمجتمع مقارنةً بقيمة الطبيب أو المهندس، تلك المناقشة قُتلت بحثًا، حتى ولو لم نقتنع بنتائجها. لكن المقصود، ما الذي يجعل لاعبًا أقيَم من غيره بالنسبة للنادي المُشتري أو البائع؟ بالضبط، السؤال هو كيف يتم تسعير اللاعبين؟ 

في صيف 2022، طلب أحد أندية البريميرليغ حضور كشافيه لاجتماع عاجل، وبعد اكتمال الحضور اتضّح أن الاجتماع ليس سوى للعب لعبة؛ طلب المدير الرياضي للنادي من الكشافين فتح حواسيبهم، والدخول على تطبيق مُعد مُسبقًا لتقييم سعر «كوب من القهوة»، ثم تقييم سعر «منزل مكوَّن من أربع غرف»، ثم «زجاجة جعة رديئة الصنع». بعد هذه الفقرة من التقييمات الكوميدية، طُلب منهم أن يضعوا تقييمهم الخاص لأسعار مجموعة من لاعبي كرة القدم، إذا ما قرروا الانتقال من أنديتهم لأندية أخرى في سوق الانتقالات الجارية. 

سوق الانتقالات
كيليان مبابي يوقِّع لباريس سان جيرمان عام صيف 2017 مقابل 180 مليون يورو.

يمكنك بكل بساطة تخيُّل كيف دارت الدقائق المُقبلة. أحدهم قد يرى أن المقابل المنطقي لانتقال «كيليان مبابي» من ناديه باريس سان جيرمان هو 120 مليون يورو، بينما يعتقد آخر أنّ المُقابل المنطقي هو 10 ملايين فقط؛ لأن عقد اللاعب على وشك الانتهاء ‑أو رُبما لأنّه لا يحب مبابي-. 

هذا هو حجم الحيرة الذي ينتابنا حين نحاول توقُّع السعر المنطقي لأي صفقة تتم بسوق الانتقالات بأي مكانٍ حول العالم. فعلى الرغم من وجود معايير شبه منطقية لتحديد هذه القيم بالفعل، والتي يفرد لها المختصون مساحات من المقالات والأبحاث الأكاديمية، مثل: سن اللاعب، مركزه، وشهرته، وغيرها من المعايير، لا تزال هناك حالات غير منطقية. فما السبب؟ 

حكمة الجماهير ليست حلا

إذا كنت متابعا لكرة القدم العالمية بشكل عام، وأخبار سوق الانتقالات بشكل خاص، فبالتأكيد أنك قد سبق وصادفت اسم «ترانسفير ماركت- Trans­fer­Markt»؛ هذا الموقِّع المتخصص في تقييم أسعار لاعبي كرة القدم. 

في الواقع، يعمل موقع «ترانسفير ماركت» وفقا لمبدأ حكمة الجماهير؛ بمعنى أن آلاف المتطوعين لدى الموقع يعملون على وضع تقييماتهم الخاصّة لأسعار لاعبي كرة القدم مضافًا لها الحجج التي يرونها منطقية لهذه الأرقام، فيما يقوم عشرات الموظفين من تفنيد هذه الأرقام والحجج محاولين الوصول لرقم منطقي «ذهبي» كي يتم عرضه على زوّار الموقع. 

طبقا لـ«كريستيان شوارتز»، منسق القيم السوقية بموقع «ترانسفير ماركت»، إلى الآن، يستحيل الوصول للوغاريتم يستطيع تحديد السعر المناسب لانتقال لاعب كرة قدم من نادٍ لنادٍ بشكل دقيق. لكن عوضًا عن ذلك يلجأ الجميع بمجموعة من الحيَل، التي تصيب أحيانًا وتخيب في أخرى. 

إحدى هذه الحيل طبقا لشوارتز هي تحديد النادي البائع لسعر البيع سرًا دون الإعلان عنه. يحكي شوارتز قصة مثيرة عن هذه الحيلة: في إحدى نوافذ الانتقالات، طلب نادي بلاكبيرن من نادي ديربي كاونتي التعاقد مع أحد لاعبيهم، وقتئذٍ كان مسؤولو كاونتي قد وضعوا قيمة قدرها 2.5 كمقابل مناسب للبيع. لكن المفاجأة كانت تلقي مسؤول التعاقدات في النادي لمكالمة هاتفية من نظيره في بلاكبيرن يعرض ضعف الرقم. 

سوق الانتقالات
هاري ماجواير من ليستر سيتي إلى مانشستر يونايتد مقابل 80 مليون يورو.

بالطبع تمت الصفقة واحتفل الجميع، البائع والمشتري. لكن هذه القصة، وإن بدت كوميدية، توضِّح حقيقة أخرى، وهي أن حاجة النادي للاعب ما قد تجعله يدفع أضعاف المقابل المنطقي لانتقاله عن غير قصد. 

في المستويات الأعلى، تلجأ الأندية لما يعرف بالـ«Benchmarking- المقياس». بمعنى أنّ الأندية تضع نصب أعينها قبل البيع أو الشراء حالة مماثلة كمرجعية لقيمة الانتقال. فمثلًا، كانت مرجعية انتقال الإنجليزي هاري ماجواير لمانشستر يونايتد هي انتقال الهولندي فيرجيل فان دايك لليفربول قبل أشهر مقابل ما يدنو من 80 مليون يورو. 

إذن، تدور سوق الانتقالات حول النجاح في استغلال الفرص، والخروج بأكبر قدر من المكاسب. صحيح؟ الإجابة القصيرة هي نعم بكل تأكيد. لكن ما لن يُخبرك أحدًا به هو تأثير «التريند» على انتقالات وأسعار اللاعبين. 

سوق الانتقالات التكتيكي 

بما أنّ الدوري الإنجليزي يعد حاليًا أكثر الأندية صرفا للأموال في سوق الانتقالات، ربما تخبرنا توجهّات الأندية داخله الكثير تقييم أسعار لاعبي كرة القدم سابقًا وحاليًا. 

سوق الانتقالات

طبقا لموقع «ذي أثليتيك»، كسرت أندية البريمييرليج منذ 1992 وحتى 2016 الرقم القياسي في سوق الانتقالات مرتين فقط لشراء لاعب وسط، في حين كسرت الأندية الرقم القياسي للانتقالات اربع مرّات متتالية للتعاقد مع لاعب وسط. 

ماذا يمكن أن نستنتج؟ 2017، كانت لحظة وصول «بيب جوارديولا» لمانشستر سيتي، والرجل الذي يعرف بأسلوبه القائم على الاستحواذ ألهم معظم مدربي الدوري، الذين حاولوا محاكاة أسلوبه، الذي يعد لاعب الوسط أهم قطعة به، بالتالي بدأ منطقيا أن تذهب أندية مثل أرسنال وتشيلسي لخطف مواهب الوسط مثل ديكلان رايس ومويسيس كايسيدو وإنزو فيرنانديز، حتى لو كلَّف التعاقُد مع كل منهم ما يتخطى حاجز الـ100 مليون يورو. 

تأثير «التريند» على سوق الانتقالات ليس وليد اللحظة، فمثلا؛ مع تراجع دور المهاجم الكلاسيكي وظهور ما يعرف بالجناح العكسي منذ 2010 وحتى آخر هذا العقد، نجد أنّ مقابل اللاعبين الذين يمكنهم لعب هذا الدور ارتفع. أسماء مثل: نيمار، عثمان ديمبيلي، كيليان مبابي، جاريث بيل، إيدين هازارد  ورياض محرز جميعهم يظهرون في قائمة أغلى 50 لاعبًا في التاريخ. 

باستخدام هذه المرجعية يمكنك فهم ارتفاع أسعار نماذج معينة من لاعبي كرة القدم في الفترة الحالية، مثل حارس المرمى الذي يجيد اللعب بقدمه، أو المدافع الأعسر، أو صانع الألعاب والمهاجم الشرس بفترة التسعينيات وأوائل الألفية؛ لأنّ الأمر برمته مرهون بحاجة المدربين إلى لاعبين يمكنهم القيام بأدوار تناسب كرة القدم الخاصة بهذا العصر. 

«البركة في الشباب» 

بسبب تطوُّر التكتيك، تحولت كرة القدم للعبة أسرع. حسب ورقة بحثية نشرتها جامعة جنوب الدنمارك عام 2020، ارتفعت سرعة اللعبة بين عامي 1966 و2010 بنسبة 15%، ويتوقع أن ترتفع بنسبة 20% إضافية بحلول عام 2030. وهذا ما يضعنا أمام حقيقة أخرى، وهي أنّ الأندية يجب أن تسعى لاستقطاب لاعبين أكثر شبابًا. 

 

في محاولة لدراسة هذا التحوُّل لجأنا لأغلى صفقات كل عام بداية من 1998 وحتى 2023، وبمنتهى البساطة نجد أن أواخر التسعينيات وأوائل الألفية شهدت دفع الأندية للمبالغ الطائلة مقابل الحصول على خدمات لاعبين تخطوا عامهم الـ26 إلا في استثناءات نادرة جدًا. بينما شهد سوق الانتقالات تحولا واضحا بآواخر العقد الثاني من الألفية الثالثة، حيث تتوجّه الأندية لاستقطاب لاعبين أقل من 25 عامًا. 

سوق الانتقالات
زين الدين زيدان (29 عامًا)، أغلى لاعب في التاريخ عام 2001.

حسب المعهد الدولي للدراسات الرياضية «CIES»، أنفقت أندية كرة القدم في سوق الانتقالات عام 2021 نحو 54% من إجمالي إنفاقها على لاعبين تقل أعمارهم عن 24 عامًا. فيما كانت 8 من أغلى 10 انتقالات موسم 2022/2023 على لاعبين أقل من 23 عامًا. بينما يظل الرقم الأهم هو أن الأندية صرفت خلال الفترة من موسم 2017/2018 وموسم 2022/2023 ما يقرب من 73% من إجمالي رسوم الانتقالات على لاعبين أصحاب أعمار تقل عن 25 عاما، وهي النسبة التي ارتفعت بحوالي 10% عن الخمس سنوات التي سبقتها. 

يضعنا هذا أمام الحقيقة الأخيرة، والتي اتضح أنها بديهية بالمناسبة، في سوق الانتقالات بالفعل لا توجد معايير، لأن اللعبة نفسها تتغيَّر، ومع كل تغيُّر تتبدَّل أولويات الأندية، لا أكثر ولا أقل. 

 

المصادر: 

 

1- كيف تطوَّر سجل انتقالات الدوري الإنجليزي الممتاز عبر التاريخ؟ (ذي أثليتيك)

2- كيف تُقيّم لاعب كرة قدم؟ (ذي أثليتيك)

3- لهذا السبب ارتفعت رسوم انتقال لاعبي الوسط (ذي أثليتيك)

4- كيف تؤثر التكتيكات على انتقالات كرة القدم؟ (ذي أثليتيك) 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى