ثقافة ومعرفة

ماذا حدث لهيروشيما وناجازاكي عقب الكارثة الذرية؟

لربما يعد القصف الذري لهيروشيما وناجازاكي أحد أبشع الأحداث التي مرّت على البشرية، حيث انتهت حياة نحو 300 ألف إنسان، أغلبهم من المدنيين، إثر الهجمة النووية التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية صوب اليابان يومي 6 و9 أغسطس من العام 1945، ردًا على ما اعتبرته اعتداءً سافرًا عليها بعد تدمير الطيران الياباني لميناء «بيرل هاربر».

اللحظات الأخيرة لهيروشيما وناجازاكي

بصباح يومٍ صافٍ، في تمام الثامنة والربع، ألقيت القنبلة الذرية الأولى على مدينة هيروشيما اليابانية، وبعد أقل من دقيقة، أعقب وميض خافت من العمى موجة دمار تفوق الخيال البشري، قتلت ما يقدر بنحو 80 ألف شخص على الفور بسبب الحرارة الشديدة للانفجار.

نتج عن ذلك الانفجار النووي تحوُّل 13 كيلومترًا مربعًا من مدينة كانت مركزًا تجاريًا وعسكريًا ومواصلات مزدحمة إلى أنقاض، حيث اجتاحت العواصف النارية الهائلة البيوت الخشبية، وسقط الآلاف بين قتيل وجريح.

تسببت القنبلة الأولى التي أسقطتها طائرة أمريكية من طراز «B52» في قتل ثُلث سكان هيروشيما، كما تسببت في محو 70% من المدينة بأسرها، لكن هذا ليس كل شيء كما تعلم، فعقب 3 أيام فقط، سقطت قنبلة ثانية على مدينة ناجازاكي، مما أسفر عن مقتل نحو 40 ألف شخص آخرين، ليُعلن بذلك ‑قصف هيروشيما وناجازاكي- بداية ما عُرف بالعصر الذري، الذي غيّر شكل خريطة العالم للأبد.

أنهار من الدماء

هيروشيما وناجازاكي
آثار الدمار بعد القصف الذري.

تحولت هيروشيما وناجازاكي إلى أكوام من الخراب، حتى إنه كان من الصعب التعرّف على معالم المدينتين إثر الدمار الذي حل عليهما، بينما تجول الناجون من الهجوم النووي في الشوارع التي تعرضت للإشعاع في حالة يرثى لها، وظل آخرون مدفونين تحت أكوام من الأنقاض، وآخرون ملقَون على الأرض مصابين بجروح لا تسمح لهم بالمشي، كانت أنهار المدينة مسدودة بجثث النفوس البائسة الذين سعوا يائسين لإغاثة أنفسهم من الحروق.

خسائر فادحة

هُدمت 26 مستشفىً من بين 28 كانت موجودة بهيروشيما، كما فارق أغلب الممرضين والأطباء الحياة نتيجة للقصف الذري والانفجارات التي تبعته، بالتالي أصبح المصابون بالجروح والحروق بلا أي فرص منطقية للنجاة.

تم إرسال المساعدة بسرعة لرعاية الناجين، ولكن لم يكن هناك الكثير مما يمكن فعله للكثير منهم، وخاصة أولئك الذين يعانون من التسمم الإشعاعي الشديد، على الرغم من ذلك، تم إنشاء مستشفيات ميدانية على عجل وتم ترتيب نقل الجرحى إلى البلدات والمدن المحيطة بسرعة، لكن للأسف لم تنقذ هذه الإجراءات الكثير من الأرواح، فعقب أشهر قليلة من سقوط القنبلة الذرية، وبحلول نهاية العام المشؤوم، ارتفعت حصيلة الضحايا بهيروشيما إلى 130 ألف قتيل.

«هيباكوشا».. ضحايا القنبلة الذرية

هيروشيما وناجازاكي
رسمة تخيلية لمعاناة الهيبوكوشا.

يُعرف أولئك الذين نجوا من القصف باسم «هيباكوشا»، والتي تُترجم إلى «الأشخاص المتضررون من الانفجار»، وربما كانت حياة هذه الشريحة صعبة جدًا على الرغم من نجاتهم، حيث نشأ اعتقاد خاطئ تمامًا بأن أولئك الذين تعرضوا للإشعاع يحملون أمراضًا يمكن أن ينقلوها إلى الآخرين، ونتيجة لذلك، نبذ المجتمع العديد من الهيباكوشا وواجهوا صعوبات مالية شديدة.

لم تعترف الحكومة اليابانية رسميًا بمعاناة الهيباكوشا بهيروشيما وناجازاكي إلا في الخمسينيات من القرن الماضي ومنحت الناجين من التفجيرات بدلًا شهريًا وحقا في الحصول على رعاية طبية مجانية، مما ساهم في تخفيف الضغط المالي على الهيباكوشا، لكنه لم يزل الوصمة التي أحاطت بهم والتي استمرت لعقود.

اقرأ أيضًا: استخدام الهاتف في محطات الوقود هل يؤدي للانفجار؟

معاناة مع المرض المزمن

أضف إلى ذلك، بالنسبة للعديد من الهيباكوشا، استمرت الآثار الجسدية والآثار العقلية للقصف لبقية حياتهم، أولئك الذين نجوا من مرض الإشعاع أصيبوا بنوبات متكررة من المرض، مما أدى في كثير من الأحيان إلى وفاتهم المبكرة.

مضاعفات الانفجار

أصيب الهيباكوشا ببعض المضاعفات المرضية، مثل «اللوكيميا»، وهو نوع نادر من السرطانات، إضافة إلى مشاكل في القلب والكبد والرؤية، ويعتقد أن أولئك الذين أصيبوا بحروق في الانفجار والعاصفة النارية أصيبوا بآفات تعرف باسم «الجدرة» على ندوبهم الناتجة عن الحروق والتي تركتهم يتألمون لبقية حياتهم.

إلى الآن، لا يزال هناك هيباكوشا يعيشون مع آثار ما بعد قصف هيروشيما وناغازاكي، وما زالوا يتلقون المساعدة والدعم من الحكومة ويعاملون بلطف وتفهم أكثر بكثير مما كانوا عليه في السنوات التي أعقبت الهجوم مباشرة.

كيف تعاملت اليابان مع الكارثة؟

عبر الاستعانة بالمتطوعين العسكريين والمدنيين، تسارعت وتيرة استعادة الخدمات الأساسية للمدينة، بداية من استعادة المياه بعد 4 أيام فقط من الانفجار وكانت القطارات تعمل على أحد خطوط المدينة بعد يوم واحد فقط من انفجار القنبلة. وبحلول التاسع من أغسطس، كانت خدمة الترام أيضًا صالحة للاستخدام.

استسلمت الحكومة اليابانية رسميًا في 15 أغسطس 1945، وأنهت بذلك الحرب العالمية الثانية، ولهذا تركزت كل الجهود على إعادة بناء هيروشيما وناجازاكي ورعاية أولئك الذين أصيبوا من جراء القصف، بما أنّه لم تعد هنالك أي احتمالات لمقارعة العدو.

لسوء الحظ، تم إعاقة هذه الجهود في حالة هيروشيما عندما ضرب إعصار مدمر المدينة في سبتمبر من العام 1945، لكن في تلك الأثناء كانت الحكومة قد استطاعت توفير معظم الخدمات الأساسية للمواطنين.

تسبب الإعصار في إحداث دمار في السكك الحديدية والطرق في هيروشيما، لكن على الرغم من ذلك، ساعد الإعصار في جرف الكثير من الغبار المشع الذي استقر فوق المدينة بعد القصف، مما أدى إلى تقليل حالات التعرض للإشعاع والمرض.

محاولة إعادة إعمار المدينتين

هيروشيما وناجازاكي
متحف القنبلة الذرية، ناجازاكي.

تم وضع خطط لإعادة بناء هيروشيما من قبل الحكومة اليابانية في غضون 5 سنوات، مع حديقة تذكارية في قلب المدينة تتمحور حول البقايا المتفجرة لقاعة الترويج الصناعي في محافظة هيروشيما، وكان من المقرر تصنيف هيروشيما كمدينة دولية للسلام، حيث تم الإفراج عن التمويل لإعادة الإعمار وتم التبرع بالأراضي المملوكة لكل من الحكومة والجيش للمدينة مجانًا.

هيروشيما وناجازاكي بعد الإعمار

أنعش ازدهار التصنيع بعد الحرب خزائن البلاد، وبحلول عام 1958، كانت مدينة الصفيح التي نشأت بعد القصف قد تحولت لمدينة أكثر حيوية، وعاد عدد سكان هيروشيما إلى مستواه قبل الحرب البالغ 410 آلاف نسمة.

أما بالنسبة لناجازاكي، فقررت الحكومة اليابانية تصنيفها كمدينة ثقافية دولية، وتم تمرير قانون بناء مدينة ناغازاكي الثقافية الدولية في عام 1949، مما أدى إلى توفير الأموال، في حين حصلت المدينة على دفعة مالية إضافية لإعادة الإعمار في عام 1952، عندما رفعت قوات التحالف الحظر المفروض على بناء السفن.

تم بناء قاعة تذكارية تسمى قاعة ناجازاكي الثقافية الدولية في عام 1955، وأصبحت المدينة حاليًا وجهة سياحية، حيث تم هدم هذه القاعة الثقافية وإعادة بنائها لتصبح متحف القنبلة الذرية في عام 1996، الذي يحتوي على كل ما تبقى من ذكريات القصف النووي للمدينة.

أخيرًا؛ ربما كان من المنطقي أن تختفي هيروشيما وناجازاكي من الخريطة للأبد، إلا أن ذلك لم يحدث، بل على العكس تمامًا، تحولت كلتا المدينتين إلى نماذج مزدهرة وحيوية، بفضل تكاتف الحكومة اليابانية مع شعبها، الذي أصر على أن تصبح هذه الكارثة مجرّد ذكرى يقام لها نصب تذكاري، لا واقعًا يدوم للأبد.

المصدر
مصدر مصدر 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى