كانت الحرب العالمية الأولى، أكثر الحروب الدموية التي نشأت في أوروبا واستمرت في الفترة من 28 يوليو 1914 إلى 11 نوفمبر 1918، وعرفت باسم الحرب العظمى أو الحرب لإنهاء جميع الحروب.
أدت الحرب إلى حشد أكثر من 70 مليون فرد عسكري، بما في ذلك 60 مليون أوروبي، مما يجعلها واحدة من أكبر الحروب في التاريخ، كما كبدت البشرية خسائر عظيمة حيث راح ضحيتها بشكل مباشر نتيجة للاقتتال أكثر من 20 مليون إنسان، منهم 8.5 مليون مقاتل، وحوالي 13 مليون مدني، بينما يشار إلى أن الحرب نفسها أدت إلى تفاقم الخسائر في الأرواح الناتجة عن جائحة الإنفلوانزا الإسبانية، التي أزهقت أرواح ما يتراوح بين 20 إلى 60 مليون نسمة حول العالم.
كان طرفا النزاع الشرس هما قوات الحلفاء بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة وروسيا والولايات المتحدة ودول أخرى، ضد دول المركز بقيادة ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية.
انتهت الحرب الطاحنة بانتصار الحلفاء، ونهاية إمبراطوريات عتيدة مثل ألمانيا وروسيا والدولة العثمانية، وتشكيل دول جديدة في أوروبا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى توقيع عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية على ألمانيا تحديدا.
وسط كل هذه الدماء، كان هنالك صوت عاقل، يدعو للسلام بدلا من الحرب، فمن غير المنطقي أن تفنى البشرية لتحقيق الغايات السياسية والبشرية، إلا أن صوت العقل دوما ما كان أقل تأثيرًا، أو هكذا نعتقد.
سيناريو حالم
في صباح صافٍ مشرق قبل 100 عام، قام آلاف الجنود البريطانيين والبلجيكيين والفرنسيين بوضع بنادقهم جانبا وخرجوا من خنادقهم وقضوا عيد الميلاد في الاختلاط بأعدائهم الألمان على طول الجبهة الغربية.
خلال 100 عام منذ ذلك الحين، كان يُنظر إلى الحدث على أنه معجزة، لحظة سلام نادرة بعد بضعة أشهر فقط من الحرب التي ستودي في النهاية بحياة ملايين الضحايا، ولكن ما الذي حدث بالفعل عشية عيد الميلاد عام 1914 وهل لعبت كرة القدم حقًا في ساحة المعركة؟
كان البابا بنديكتوس الخامس عشر، بابا الفاتيكان الذي تولى منصبه في شهر سبتمبر من نفس العام، قد دعا في الأصل إلى هدنة في عيد الميلاد، وهي الفكرة التي تم رفضها رسميًا، ومع ذلك، يبدو أن البؤس المطلق للحياة اليومية في الخنادق الباردة والرطبة والباهتة كان كافيا لتحفيز القوات على بدء الهدنة بمفردهم.
لا نعلم تماما كيف حدث ذلك، فهنالك مجموعة كبيرة من الروايات الشفوية المختلفة حول ذلك الأمر، فأغلب من عايشوا تلك الفترة تركوا مذكرات يومية تجعلنا نجزم بأنه من المستحيل افتراض حدوث هدنة بين الفريقين، ومع تعدد الروايات، غابت الحقيقة، دون أن نعلم كيف بدأت الهدنة، وأين بدأت، وكيف انتشرت، فهل كان تصرفا عفويا من قبل الجنود وانتشر كالنار بالهشيم؟
فرضيات
تشير معظم الروايات إلى أن الهدنة بدأت بغناء ترانيم من الخنادق عشية عيد الميلاد، حيث ظل الجنود يرددون.. “ليلة مقمرة جميلة، صقيع على الأرض، أبيض في كل مكان تقريبًا”.
ووصف جراهام ويليامز من لواء بنادق لندن الخامس ما حدث بتفصيل أكبر، فقد كان الجنود الألمان حسب روايته يغنون إحدى الترانيم الخاصة بهم، قبل أن يبدأ الجنود البريطانيون في غناء إحدى ترانيمهم، قبل أن يشترك الفريقان في ترديد ترنيمة “Adeste Fideles”.
“كان شيئا استثنائيا، دولتان تغنيان نفس الأغنية وسط الحرب”.
جراهام ويليامز، الجندي البريطاني.
في صباح اليوم التالي، في بعض الأماكن، خرج جنود ألمان من خنادقهم، وهم ينادون باللغة الإنجليزية “عيد ميلاد سعيد”، وخرج جنود الحلفاء بحذر لاستقبالهم، وفي حالات أخرى، رفع الألمان لافتات كتب عليها “أنت لا تطلق النار، نحن لا نطلق النار”.
تبادلت القوات الهدايا والسجائر والطعام والقبعات على مدار ذلك اليوم التاريخي، كما سمحت الهدنة لكلا الجانبين بدفن القتلى من رفقائهم، التي كانت جثثهم تغطي أرض المعركة بين الخنادق.
إحدى الروايات المنتشرة أيضا، أن جنديا بريطانيا قص شعره على يد آخر ألماني، ويذكر العديد ممن نجوا أن القوات المتحاربة قد لعبوا بالكرة في ما بينهم، لكن على عكس الشائع فلم تكن هنالك أي مباراة منظمة بين الجانبين.
وقت مستقطع
حدثت الهدنة ببعض المناطق، لكن الحرب استمرت بأخرى، وبالتأكيد استمرت الحرب الدامية لتشتعل مجددا حتى في مناطق الهدنة المزعومة، فقد كانت عبارة عن ساعات من السلام بحرب دامية حسب تعبير ألفريد أندرسون، من الكتيبة الخامسة “بلاك ووتش”.
قد يكون السبب في حدوث هذه الهدنة القصيرة، والتي تكررت على امتداد عمر الحرب لكن بشكل أقل انتشارا هو التقارب الشديد بين القوات، حيث كان الفاصل بين الخنادق 100 متر فقط، ما جعل الجنود يستطيعون سماع كل ما يدور على الجانب الآخر، بل حتى شم رائحة الطعام الذي يطبخه جنود العدو، وهو ما يمكن أن يكون سببا في سهولة إيجاد رابط إنساني بين الجنود الذين لا يخوضون الحرب بغرض مطامع سياسية واقتصادية مثل قادتهم.
لذلك؛ فقد أصدرت مذكرة بريطانية في الخامس من ديسمبر من نفس العام، قبل حدوث الهدنة، تحذر من احتمالية رضوخ الجنود لإنسانيتهم، وأمرت الجنود بعدم إنشاء أي علاقات ودية مع العدو، فحسب الجنرال سميث دورين، قائد الجيش الثاني البريطاني، هذا هو الخطر الأكبر على معنويات الجنود.
ومع ذلك، وبعد أكثر من قرن من الزمان، لا تزال هدنة عيد الميلاد شهادة على قوة الأمل والإنسانية في ساعة حالكة ودامية من التاريخ.