شخصيات مؤثرةثقافة ومعرفة

فلورنس نايتنجيل.. «حاملة المصباح» ورائدة التمريض الحديث

لم تكن فلورنس نايتنجيل ممرضة تقليدية، بل كانت تحمل صفات الأم والأخت والصديقة، وجميع الخصال الحميدة التي أغدقت بها على مرضاها، طوال فترة رعايتها لهم، والتي ظهرت أيضًا في أرض المعركة، إذ لم يقل دورها عن دور المحاربين العظماء بين ميادين القتال، حتى إنها لُقبت برائدة التمريض الحديث.

فلورنس نايتنجيل

ولدت الممرضة البريطانية فلورنس نايتنجيل «Flo­rence Nightin­gale»، في فلورسنا بإيطاليا، 12 مايو من عام 1820، وقد عُرفت أيضًا بالسيدة حاملة المصباح، ورائدة التمريض الحديث، نظرًا لجهودها العظيمة التي قدمتها، خلال مسيرة حياتها، خاصة أثناء حرب القرم بين عامي 1854- 1856، وهي الحرب التي قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية، في أكتوبر 1853، والتي ساندت فيها مصر وتونس وبريطانيا وفرنسا أيضًا الدولة العثمانية، نظرا لحالة الضعف الشديد التي كانت تمر به.

اقرأ أيضًا: محمد الفاتح.. القائد الذي أجرى السفن على اليابسة

ممرضة رغم أنف المجتمع

فلورنس نايتنجيل.. "حاملة المصباح" ورائدة التمريض الحديث

يعود أصل السيدة فلورنس نايتنجيل إلى عائلة بريطانية، من الطبقات الثرية جدًا، التي تؤمن بتعليم المرأة وحقها في الحرية والاستقلال، لذا فقد بدأ والدها بتعليمها في المنزل، إذ كان حلمها منذ صغرها أن تصبح ممرضة، تسهر على راحة الآخرين، وتقدم لهم الخدمات والمساعدة، ورغم رفض والديها لهذه المهنة، التي لم تكن ‑في عرف المجتمع- مهنة «محترمة» أو جذابة في ذلك الوقت، إلا أنهما خضعا لرغبتها في نهاية الأمر.

هكذا وضعت التمريض هدفًا أمام عينها ومضت في طريقها، وبحلول عام 1851 تعلمت التمريض في مدرسة الكايزروارت، على أيدي سيدات مدربات، يتميزن بقدر عال من الأخلاق والصفات الحميدة، الأمر النابع من إيمانها بأهمية وضع خطة ومنهج لتعليم التمريض، وبرامج لتدريس آداب المهنة، حتى إنها رفضت جميع من تقدموا لخطبتها، إذ شعرت بأن الزواج قيد ومسؤولية كبيرة، ستحول بينها وبين مهنة التمريض، والتي اعتبرتها مسؤولية أكبر حملتها على عاتقيها.

اقرأ أيضًا: أميليا ماري إيرهارت.. أول امرأة تطير حول العالم

صفاتها كممرضة

عُرفت فلورنس بصفاتها وخصالها الحميدة، على المستوى الشخصي والمهني، ووفقًا لجميع المحيطين بها، فإن أبرز صفاتها التي تمتعت بها أثناء عملها كممرضة، والتي كانت ترى وجوب توفرها في الممرضة بشكل عام:

  • اهتمامها الشديد بالنظافة وقواعد التطهير.
  • أول من وضعت أسس وقواعد للتمريض الحديث.
  • كذلك أول من وضعت مستويات الخدمات التمريضية، والخدمات الإدارية في المستشفيات.
  • كانت بعيدة تمامًا عن إطلاق الشائعات والأقاويل، إذ كانت تصب كل جهودها في سياق العمل فقط.
  • منضبطة في مواعيدها، لا تتأخر على مرضاها قط.
  • دقيقة الملاحظة.
  • رقيقة المعاملة مع الجميع، وتتمتع بحساسية شديدة تجاه الغير.
  • أمينة جدًا على أسرار مرضاها، وتعد هذه الصفة من أبرز الصفات التي ميزتها، والتي كانت ترى أنها أهم صفة، يجب توافرها في الممرضة.

أعمال تطوعية

فلورنس نايتنجيل

قامت فلورنس بصحبة بعض أصدقاء الأسرة، بزيارة مصر واليونان بين عامي 1849- 1850، وقد عملت أثناء هذه الزيارة مع الراهبات اللاتي يعملن في المستشفيات، بهدف مساعدة الفقراء والمرضى من أبناء عامة الشعب، مما منحها فرصة التزود بالكثير من المعلومات عن مصر القديمة، الأمر الناتج عن حبها لمصر وتاريخها، إذ كانت تستعين في الكثير من كتاباتها بتعاليم الحكيم المصري تحوتى، الذي أطلق عليه اليونانيون «هرمس».

جولة حول العالم

سافرت فلورنس إلى مدينة الإسكندرية، في نهاية العام، وهي الرحلة التي تضمنت زيارة المستشفيات، والمدارس التابعة لبعض الجمعيات الدينية، ولأول مرة استطاعت فلورنس أن تتعلم النظام والتخطيط الصحيح، وما يترتب عليه من إيجابيات في إدارة المستشفيات.

وبعد فترة وجيزة، عادت نايتنجيل لتجوب دول أوروبا، لتستكمل رسالتها، إذ بذلت قصارى جهدها في البحث عن الأعمال الخيرية، رغبة منها في اتخاذ خطوات هامة وجادة لمهنة التمريض التي أحبتها بكل جوارحها، هكذا بدأت العمل جديًا، حيث عَمِلت في معهد فليدئر المطل على نهر الراين، الذي افتُتح لإعداد الفتيات لمهنة التمريض.

حياة جديدة

بدأت فلورنس تمارس حياتها الجديدة بنشاط وحيوية، حيث كانت تستيقظ من نومها فجرًا لتؤدي جميع الأعمال المسندة إليها، بالإضافة إلى مشاركتها راهبات المعهد وتقديم المساعدة لهن، أثناء إلقائهن محاضرات في التمريض، وعلى الرغم من صعوبة هذه التجربة وقساوتها، إلا أنها اعتبرتها من أعظم التجارب التي مرت بها في حياتها.

وبعد عودتها إلى إنجلترا، بدأت تقضي الجانب الأكبر من يومها، في دراسة أحوال المرضى والمستشفيات، وقد سعت جاهدة للمناداة، بأهمية إقامة معهد للتمريض في بلادها، وهو ما حدث بالفعل بعد فترة وجيزة، إذ تحققت رغبتها وتم إنشاء معهد السيدات النبيلات للعناية بالمرضى، في عام 1853.

اقرأ أيضًا: جين باريت.. أول امرأة «بحارة» عرفها التاريخ المعاصر

هكذا ذاع صيتها، خاصة بعد إدخالها نظما جديدة في التمريض وأساليب تطبيق نظرياتها العلمية في علاج المرضى، والتي اعتمدت من خلالها على النظافة في المقام الأول، ثم تهوية الغرف واستنشاق النسيم العليل، حتى في أيام الشتاء الباردة، لطرد الجراثيم والطاقة السلبية المحيطة بهم، مما جعل أحوال المرضى تتبدل بالفعل، وأثر إيجابًا على عملية شفائهم، بل وخروجهم من المستشفى أيضًا، فأصبحوا يخرجون منها مقبلين على الحياة، وأكثر صحة وحيوية.

حرب القرم

فلورنس نايتنجيل

لم تتوان فلورنس يومًا عن عملها، خاصة بعد تعيينها في منصب مديرة الممرضات في مستشفى كلية الملك، حتى أتيحت لها فرصة العمر، لتؤدي رسالتها التي طالما حلمت بها، الأمر الذي تحقق مع بداية اندلاع حرب القرم، في عام 1853 بين روسيا من جهة، وبريطانيا وتركيا وفرنسا وسردينا، من جهة أخرى، والتي نقلت على إثرها صحيفة التايمز البريطانية صرخة استغاثة، من ميدان المعركة، إذ تساقط المئات من الجرحى بعد النصر الذي حققه الإنجليز في تركيا، كنتيجة حتمية لافتقارهم للتمريض والإسعافات اللازمة.

هكذا لبت فلورنس الدعوة سريعًا، وهرعت إلى تركيا، لتبدأ فورًا في جمع المرضى والجرحى في أحد المباني العسكرية الشاغرة، وقد استطاعت في فترة وجيزة جدًا، أن تقدم لهم الرعاية الطبية اللازمة، والإسعافات الضرورية، وقد نجحت نجاحًا باهرًا في مهمتها، إذ استطاعت تحويل المبنى العسكري إلى مستشفى تتوافر به جميع الوسائل الطبية اللازمة لمداواة المرضى.

رسالة تقدير

هكذا وبفضل الله ثم جهود فلورنس، التي لم يكن يتجاوز عمرها الـ34 في ذلك الوقت، تقلصت نسبة الوفيات بين الجرحى بنسبة كبيرة، فأصبحت 2% فقط، بعد أن كانت قد بلغت مداها، قبل وصولها إلى أرض المعركة، والتي مكثت فيها لأكثر من عامين قبل عودتها إلى بلادها، مما جعل الجميع يشيد بها ويثني على جهودها، حتى إن فيكتوريا ملكة بريطانيا بعثت إليها تحية خاصة من قصرها، ورسالة شكر وتقدير، تعظيمًا وإجلالًا لعطائها المستمر وتفانيها في عملها.

حاملة المصباح

فلورنس نايتنجيل

بالإضافة إلى ذلك، قام الشعب البريطاني بجمع حوالي 50 ألف جنيه إسترليني، قدموها كهدية رمزية إلى فلورنس، تقديرًا للخدمات التي أدتها خلال الحرب، واستكمالاً لنبل أخلاقها، أنفقت هذه الأموال في سبيل الخير، إذ قامت ببناء معهد لتدريب الممرضات بمستشفى سانت توماس، وأطلقت عليه اسم «بيت نايتنجيل»، وهو البيت الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.

كانت فلورنس تخرج ليلًا، في الظلام الدامس بين الطرقات الخاوية، حاملة مصباحا في يدها، تبحث بين ميادين القتال عن المصابين والجرحى، لتسعفهم وتقدم لهم الرعاية الكافية، حتى إن المرضى كانوا يعرفونها، بمجرد أن يلمحوا طيفها بالقرب منهم، لذا فقد أطلقوا عليها لقب «السيدة حاملة المصباح».

اقرأ أيضًا: الملكة ماوية.. امرأة هزت عرش الإمبراطورية الرومانية

تكريم مستحق لـ«نايتنجيل»

فلورنس نايتنجيل.. "حاملة المصباح" ورائدة التمريض الحديث

وبحلول عام 1907 تسلمت فلورنس نايتنجيل البالغة من العمر 87 عامًا، وسام الاستحقاق، حيث كانت أول امرأة تُمنح هذا الوسام، وكانت آنذاك قد فقدت ذاكرتها تمامًا.

كما قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بمنحها أعلى تكريم في التمريض الدولي، عام 1912، وهو تمثال نايتنجيل، الذي قام بنحته الرسام والنحات «آرثر جورج ووكر»، ويقع التمثال في المملكة المتحدة، تحديدًا في مدينه ويستمينستر «West­min­ster».

وفاتها

وفي يوم 8/13 من عام 1910، رحلت فلورنس في سلام أثناء نومها، بعد أن جاوزت الـ90 عامًا، وقد أفنت حياتها في خدمة البشرية، وقدمت رحلة حافلة بالأعمال النبيلة، استطاعت من خلالها تخليد اسمها في التاريخ، وقد حزن الجميع حزنًا جمًا على فقدها، حتى إن الملكة فيكتوريا بكت بكاءً شديدًا، عند سماعها نبأ رحيل السيدة حاملة المصباح.

المصدر
مصدر 1مصدر 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى