إذا كانت لدينا سفينة خشبية، وبدأت ألواحها الخشبية في التآكل فاستبدلناها الواحد تلو الآخر بأخرى أقوى وأحدث.. عند الانتهاء من استبدال آخر لوح قديم، هل يمكننا القول إنها نفس السفينة الأصلية أم أنها واحدة أخرى باعتبار أنه لم يعد أي جزء متبقي من القديمة؟.. هذه هي مفارقة سفينة ثيسيوس.
سفينة ثيسيوس
ثيسيوس هو شخصية أسطورية إغريقية، ويفترض أنه هو صاحب الفضل في بناء أثينا، ونُقل عنه أنه قد سبق له وخاض معارك بحرية عديدة وفاز بها جميعا، كما استطاع في إحدى معاركه التخلّص من وحوش ضخمة مثل «مينوتاور» وهو وحش له جسد إنسان ورأس ثورٍ.
وفقًا للفيلسوف «بلوتارخ» تم وضع السفينة كنصب تذكاري في عهد «ديميتريوس فاليروس» الذي عاش في أثينا خلال الفترة ما بين 350 لـ280 قبل الميلاد، وكحال أي نصب تذكاري، بدأت أخشاب السفينة في التآكل، ما استدعى تغيير بعض ألواحها ومجاديفها للحفاظ عليها، واستبدالها بألواح أقوى وأحدث.
لتطفو على السطح المُعضلة الحقيقية، لأن شريحة ما رأت بأن السفينة لم تـعُد سفينة ثيسيوس، بينما رأت الفئة الأخرى بأن تغيير الألواح لا يعني تغيير السفينة.
من وجهة نظر عملية، في لحظة ما بالتأكيد قد تم تغيير كل أخشاب السفينة واستبدالها بأخرى، لذا فالسؤال المهم، هل ما زالت هذه السفينة “سفينة ثيسيوس”؟ وإذا افترضنا أنها لم تعد سفينة ثيسيوس، فعند أي نقطة حدث ذلك تحديدًا؟ بمعنى أوضح، كيف تفتقد الأشياء هويتها؟ هذه هي معضلة الهوية التي أشار إليها بلوتارخ، باستخدام نصب ثيسيوس التذكاري.
من نحن؟
يتغير جسد الإنسان تماما كل 7-10 سنوات، والسبب ببساطة هو أن خلايا الجسم لها دورة حياة تنتهي بانتهائها لتحل خلايا أخرى بديلا لها، فمثلًا؛ خلايا القولون تموت بعد 4 أيام، وخلايا الجلد تتبدل بعد حوالي أسبوعين، إذن وبشكل ما، جسدك الذي تمتلكه الآن ليس ذلك الذي امتلكته قبل شهر، وغير الذي امتلكته قبل سنة، صحيح! بالتالي هل يمكننا افتراض أنك شخص آخر غير ذلك الذي عاش قبل سنة مثلا؟
يعتقد بعض الفلاسفة أن هويتنا هي انعكاس لجسدنا، لكن هذا الافتراض به الكثير من الشوائب، لأننا بمرور الوقت، نكبر في العمر، تظهر علينا علامات الشيب، مثل الشعر الأبيض والتجاعيد، كذلك تتغير تصرفاتنا وسلوكياتنا الحياتية، فتتغير حمياتنا الغذائية، مظهرنا الخارجي وما نرتديه، وكذلك تصيبنا مشاكل صحية جديدة، وهذا ليس كل شيء، فكل خلايانا ستتحلل عند الوفاة، لذلك لا يمكن الاعتراف بالجسد وحده كمُعرِّف للإنسان، لأنه شيء غير دائم، يتغير بمرور الوقت.
على الجانب الآخر؛ يرى بعض الفلاسفة بأن العقل هو من يمنح الإنسان هويته، ومع ذلك لا يمكننا التأكيد على ثبات ما ينتجه عقل الإنسان، لأنه أيضًا متغير، ويعتمد على الوقت والظروف، فقد تتغير نظرتنا للحياة بعد التعرُّض لموقف واحد فقط، قد نصبح مدمنين أو متعافين من الإدمان، قد نتجه لاعتناق ديانة ما أو نتركها، قد نصاب باليأس قبل أن نعود ونتفاءل، لذلك لا ضمانة أيضًا لكون العقل أداة تعريفية حقيقية للإنسان.
بين هذا وذاك، يرى آخرون بأن الهوية هي حاصل جمع 4 عوامل وهي اللقب، المكانة، المهنة والمسؤوليات. إلا أن ذلك الطرح أيضًا ربما لا يقودنا إلى حل مثالي، لأن مع الوقت، تتغير مكانة الإنسان في المجتمع، سواء للأفضل أو الأسوأ، كما أن متوسط عدد الوظائف التي يحصل عليها الإنسان بحياته تقترب من الـ10 وظائف، كما أن المسؤوليات بدورها تتغير، فطفلك الذي ترعاه الآن، سيكبر بعد عدد من السنوات ويتركك دون أن يكترث لأمرك.
لذلك ومع إقرارنا بحقيقة كل تلك التغييرات، يبقى السؤال الأهم بلا إجابة، هل نحن دائمًا نفس الشخص؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك مثل سفينة ثيسيوس، فما هو الإصدار الذي يوّضح هويتنا ومن نكون؟
لأنه لا توجد إجابة قاطعة
بالعودة لسفينة ثيسيوس، يرى بعض الفلاسفة أنه لا توجد مشكلة ضخمة في هوية السفينة ما دامت تحتوي على قطعة خشب واحدة أصلية، في حين افترض البعض الآخر أن السفينة ستظل كما هي “سفينة ثيسيوس” طوال الوقت، مرجعين ذلك إلى ما يعرف بـ”الاستمرارية الزمانية المكانية”، فالتغيير التدريجي في الأشياء وحتى المعتقدات والأشكال يظل مقبولا إنسانيًا، لكن ما هو صادم هو التحول الجذري، والذي يمكن اختباره عند تعرُّض أحدهم لحادثة ليستيقظ كشخص آخر تمامًا.
الاستمرارية تعني أن كل الأشياء من حولنا تتحرك، حتى الأفكار والأمنيات، بالتالي نحن نتكون من قطع تتبدل مع الوقت مثل السفينة الخشبية تماما، وقد يتغير كذلك شكلنا وتكويننا، هذا ما افترضه الفيلسوف اليوناني «هيركاليتس» حين قال: “لا نخطو في نفس النهر مرتين”، حين أراد أن يدلل على استمرارية تحرك الإنسان ورغبته في التغيير الدائم ومع ذلك ستظل هويتنا قائمة كما هي.
هذا ما توّصل إليه «توماس هوبز» الفيلسوف والعالم الإنجليزي، الذي أخذ على عاتقه تعقيد تجربة ثيسيوس، حين افترض أن كل الألواح القديمة التي استبدلت تم استخدامها لبناء سفينة جديدة، فأي منهما هي السفينة الأصلية؟
الحقيقة المؤسفة هي أنه لا إجابة بنعم أو لا على ذلك، كما قال طبيب النفس دانييل جيلبيرت، لأن الإنسان هو سلسلة من الأعمال الجارية التي يعتقد بالخطأ أنها تنتهي، لكن ذلك لا يحدث، لذلك توضح لنا مفارقة ثيسيوس أنه حتى وإن كنّا نرى في الهوية شيئا ثابتا، فإن ذلك ليس صحيحا، فالهوية تعني المرونة والتغيير المستمر وليس العكس.